تفتخر شعوب الأرض قاطبة عندما تمتلك موارد طبيعية توفر لها حياة كريمة ومترفة، وأكثر ما تفخر به هي الثروات المعدنية كالفحم والنفط والغاز الطبيعي وغيرها من الثروات التي تعد حالياً المصادر الرئيسية للطاقة في العالم.
وتدعم الشعوب كذلك كل جهود حكوماتها الساعية إلى استثمار هذه الثروات وتطويرها وتنميتها وتسخير عوائدها لخدمة ورفاه المواطنين الذين هم أصحاب هذه الثروات في البلاد.
غير أن هذه الصورة تبدو مختلفة في العراق الجديد، فالثروات الجديدة ومحاولة استغلالها تصبح أحياناً مصدراً لمعضلات وخلافات جديدة تضاف إلى العديد من سابقاتها.
مثال على ذلك حصل قبل خلال الشهر الماضي، حين وقعت وزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كوردستان - العراق عقدين مع شركتين أميركية وكندية لتطوير إنتاج الغاز الطبيعي في منطقة السليمانية في إقليم كوردستان. وقد جرت مراسم توقيع العقدين في العاصمة الأميركية واشنطن وبرعاية مسرور بارزاني رئيس حكومة الإقليم. مراسم توقيع العقدين حظيت بتغطية إعلامية واسعة منحت بعداً سياسياً ودبلوماسياً واسعاً تعزز بعد أن أيدتها الحكومة الأميركية ممثلة بوزارة الخارجية وأعداد كبيرة من أعضاء الكونغرس الأميركي، حيث وصفت هذه العقود بأنها نموذج ملهم للشراكة في مجال الطاقة.
أهمية هذه العقود
استأثرت هذه العقود بأهمية متميزة بين عقود الطاقة السابقة مع العديد من شركات استثمار النفط والغاز في المنطقة لجملة من الأسباب. السبب الأول يكمن في أن هذه العقود تختص بالغاز الطبيعي الذي أصبح محل اهتمام العالم بأسره، خاصة بعد تراجع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا وتضاعف أسعاره في أسواق الطاقة إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في شباط (فبراير) 2022.
الأمر الآخر هو ضخامة هذه العقود وكلفتها المالية المرتفعة التي تجاوزت 100 مليار دولار، وبذلك تعد عقوداً استراتيجية، فهي تشير إلى حجم التجمعات الغازية والنفطية التي يمكن إنتاجها واستثمارها في هذين الحقلين اللذين تتجاوز الاحتياطات التخمينية للغاز الطبيعي فيهما 10 تريليون قدم مكعب قياسي.
والأمر الثالث الذي أعطاها أهمية، أن هاتين الشركتين المتعاقدتين (أميركية وكندية) وأن توقيع العقود معهما يمثل نقطة فارقة في صناعة النفط العراقية، إذ لم تحصل الشركات الأميركية ولا الأوروبية على مشاركة أو حصة جديرة بالاعتبار طوال جولات التراخيص التي أعلنتها وزارة النفط العراقية منذ أكثر من 10 سنوات. ويحتل قطاع الطاقة مكانة متميزة في برنامج إدارة ترامب التي استلمت مقاليد الحكم في العشرين من كانون الثاني (يناير) من العام الحالي، وبالتالي ستحظى هذه التعاقدات بدعم لافت من الإدارة الأميركية ومؤسساتها.
موقف الحكومة الاتحادية العراقية
لم يتأخر رد الحكومة العراقية في رفض هاتين الاتفاقيتين، فبعد يوم واحد فقط من توقيع الاتفاقيتين، صدر بيان من وزارة النفط، فاحت منه بوضوح رائحة السياسة، تضمن أن هذه الاتفاقيات غير دستورية وغير قانونية لأنها حصلت بدون موافقة وعلم وزارة النفط الاتحادية! غير أن البيان الذي أصدرته الوزارة في اليوم التالي أشار إلى أن الوزارة لا تمانع في التعاقد مع الشركات الأميركية شريطة أن يتم ذلك بعلمها. وتصاعدت ردود الأفعال المسيسة (للأسف) لتصبح أكثر حدة، فبعد أيام أقامت وزارة النفط دعوى قضائية على حكومة الإقليم في محاولة لإجبارها على إبطال هذه العقود والتراجع عنها. ووصل التصعيد السياسي إلى أعلى مدياته حين قطعت وزارة المالية الاتحادية رواتب موظفي إقليم كوردستان لشهر أيار وللأشهر المتبقية من العام الحالي تحت ذرائع لا تقنع أحداً.
المسوغات القانونية التي قدمتها حكومة الإقليم
كان واضحاً أن حكومة الإقليم كانت تتوقع صدور ردود فعل متسرعة وشديدة من الحكومة الاتحادية. ففي يوم التوقيع على العقود، صرّح السيد رئيس حكومة إقليم كوردستان بأنه لا داعي للانزعاج من هذه العقود فهي تصب في صالح العراق وكذلك إقليم كوردستان، وأضاف السيد وزير الثروات الطبيعية الذي وقع على العقود بأن هذه العقود لا تستهدف أحداً وإنما تهدف إلى تحسين البنية التحتية لقطاع الكهرباء في الإقليم لأنها تركز على توفير كميات إضافية من الغاز الطبيعي المستخدم كوقود لمحطات الطاقة الكهربائية بهدف الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من الكهرباء عند وصول الإنتاج إلى 8000 ميغاوات في الساعة.
أشار مسؤولون وخبراء أن هذه عقود وُقّعت استناداً إلى الصلاحيات القانونية التي منحها دستور العراق لعام 2005 للإقليم بموجب المادة (121) من الدستور، كما أن المشاركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط في إدارة الحقول النفطية كرّستها بوضوح المادة (112) من الدستور العراقي. وحول وصف هذه العقود بأنها غير قانونية، فهذا الأمر يمكن ردّه بسهولة، حيث لا يوجد قانون نافذ للنفط والغاز في العراق الاتحادي، وبذلك لا يمكن وصف أي عقد يبرمه الإقليم أو المحافظات المنتجة بأنه غير قانوني لعدم وجود قانون ينظم صلاحيات ومسؤوليات توقيع عقود النفط والغاز وحيثياتها.
وعلى العكس من ذلك، فإن حكومة الإقليم قد أصدرت في العام 2007 قانونين: قانون رقم (21) وهو قانون وزارة الثروات الطبيعية في الإقليم الذي يوضح واجبات الوزارة في إدارة القطاع النفطي وعمليات الاستكشاف والإنتاج والمعاملة وغيرها، والقانون رقم (22) وهو قانون النفط والغاز في الإقليم والذي يتضمن المراحل والعمليات المختلفة في إدارة هذه الصناعة النفطية في الإقليم.
أسباب ردود الفعل المتشددة من بغداد
تعمل وزارة النفط الاتحادية بشكل جاد وحثيث، خاصة بعد تسلم السيد السوداني الكابينة الوزارية منذ العام 2021، على زيادة استثمار الغاز الطبيعي المصاحب للنفط والذي تُحرق منه ملايين الأقدام المكعبة يومياً في معظم حقول العراق. وذكرت وزارة النفط في عدة بيانات، بأنها تعمل بجد في استثمار الغاز المصاحب وتقليل كمية الحرق تدريجياً وتخطط أن تصل إلى نسبة استثمار الغاز إلى 70 بالمئة في نهاية العام الحالي وإلى 100 بالمئة بنهاية العام 2028.
وعليه فإن عقود الإقليم الجديدة التي تركز على إنتاج الغاز الطبيعي واستثماره تعد مكملة ومنسجمة مع جهود الحكومة الاتحادية، وأن كل ما يُكتشف من احتياطات جديدة في الإقليم، سيمثل إضافة إلى الرصيد (الاحتياطي) العراقي من الغاز الطبيعي. وفي تصريح رسمي من الوزارة، يمتلك العراق احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي تتجاوز 127 تريليون قدم مكعب قياسي (مقمق) تضعه في المرتبة الحادية عشرة أو الثانية عشرة على مستوى العالم من حيث الاحتياطي الغازي.
طورت وزارة الثروات الطبيعية في الإقليم حقولاً متميزة للغاز الطبيعي (كورمور وجمجمال) وحققت بالتعاون مع شركات إماراتية معدلات إنتاج عالية تجاوزت (500) مليون قدم مكعب قياسي يومياً، وتهدف إلى تحقيق إضافات كبيرة في إنتاج الغاز الطبيعي عبر العقود الجديدة الموقعة في واشنطن. يعتقد بعض المحللين أن هذه الإنجازات في قطاع استثمار الغاز الطبيعي من قبل حكومة الإقليم الحديثة وذات الموارد والخبرات المحدودة، أثارت حفيظة وزارة النفط الاتحادية التي شعرت بتقصيرها وتلكؤ برامجها في استثمار الغاز بالرغم من مرور عقدين من الزمان على تشريع الدستور العراقي.
ثمة عامل آخر، أن تطوير إنتاج الغاز الطبيعي في الإقليم واحتمالية تزويد كميات منه إلى محافظات عراقية أخرى، سيعجّل، وبالتزامن مع جهود وزارة النفط المستمرة في عزل الغاز المصاحب في العديد من حقول الجنوب، في الوصول إلى الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن استيراد الغاز والكهرباء من إيران. وهذا الأمر ترفضه أطراف عراقية موالية (والأصح تابعة) لإيران ولها نفوذ في معظم مفاصل الدولة العراقية. هذه الأطراف تعمل منذ سنوات وبشكل ممنهج في الإبقاء على العراق مستورداً للغاز والكهرباء من إيران وتسديد فواتير باهظة تصل إلى نحو 8 مليار دولار سنوياً. وثمة شواهد لذلك حصلت في السنوات السابقة: الاستهداف المتكرر لحقل غازي ضخم في الإقليم (حقل كورمور)، عرقلة استثمار حقل غازي عملاق في محافظة الأنبار (حقل عكاز)، التلكؤ في استثمار حقول غازية أخرى مثل حقل المنصورية (محافظة ديالى).
تتمنى دول عديدة في العالم أن تمتلك نصف ما يمتلك العراق من خيرات وفيرة على رأسها النفط والغاز، ومن المؤسف أن الإدارات الضعيفة وغير المهنية وغير النزيهة (أحياناً) المتعاقبة لقطاع النفط والغاز، لم تحرم الشعب العراقي من كامل ثرواته وحسب، بل واستغلت هذه الثروات وإيراداتها كأدوات في الألاعيب والمكائد السياسية غير النظيفة، والمستمرة في بلادنا لعقدين من السنين.