في صمتٍ ثقيلٍ يسكن الحقول اليابسة، أطلقت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو" صيحة تحذير مدوية، كأنها صدى أنين الأرض التي أنهكها العطش. فالجفاف الحاد الذي يُطبق على سوريا لا يُهدد موسماً زراعياً وحسب، بل يُنذر بانهيار منظومةٍ حيوية تمثل شريان الحياة لملايين البشر.
تُحذر "الفاو" من كارثة وشيكة قد تلتهم ما يصل إلى 75 بالمئة من محصول القمح المحلي، وهو أكثر من مجرد رقم إحصائي. إنه القوت اليومي، والرغيف الذي يختزل في طياته معاني الكرامة والاستقرار والأمن. في ظل هذا التراجع المريع، تتوقع المنظمة عجزاً في القمح يصل إلى 2.7 مليون طن بحلول عام 2025، وهو ما يكفي لإطعام نحو 16 مليون إنسان لسنة كاملة. هذه الأرقام الباردة تحمل في طيّاتها سخونة الواقع، وتهدد بتحوّل الأمن الغذائي إلى أزمة وجود.
ممثل "الفاو" في سوريا، أكد أن هذا التدهور في إنتاج القمح يشكّل تهديداً مباشراً للقدرة على الصمود الغذائي، ما يستدعي تحركاً عاجلاً من المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية لدعم الزراعة السورية، ذلك القطاع المنهك تحت وطأة الجفاف والعقوبات وشحّ الموارد.
أحد الخبراء الزراعيين أضاء بدقة على عمق المأساة، مؤكداً أن الأزمة لم تعد ترفاً تقنياً يُناقش في قاعات المؤتمرات، بل صارت مسألة حياة أو موت، ومطلباً وطنياً وأخلاقياً بامتياز. دعا عفيف إلى عقد ورشة وطنية جامعة، بمشاركة الحكومة ووزارة الزراعة والمنظمات الأممية والدولية، للنظر في سبل النهوض بقطاع الزراعة الذي بات هو الضامن الأخير لبقاء الإنسان في هذه الأرض التي أنهكتها السنوات العجاف.
أشار الخبير إلى أن ما تشهده سوريا اليوم من تغيّرات مناخية قاسية ـ تجلّت في شتاء شحيح الأمطار ـ وأخرجت محاصيل استراتيجية بأكملها من دورة الإنتاج، من القمح إلى الشعير، ومن حبة البركة إلى الكمون، فأصبحت الأرض جرداء إلا من الرجاء. وما يزيد الطين بلة أن الفلاح السوري، الذي لطالما كان درع الأمن الغذائي، يركع اليوم تحت أعباء تمويل باهظة، وعجز عن شراء الوقود اللازم لضخ المياه، لتتحول الأرض المروية إلى أرضٍ ميّتة.
أما الحديث عن الخسائر، فيأخذ طابعاً أكثر إيلاماً عند ذكر الثروة الحيوانية. الأبقار تُباع اليوم بأقل من ثلث ثمنها الحقيقي، نتيجة لتدني أسعار منتجاتها وارتفاع تكاليف تربيتها، ما يدفع المربين إلى العزوف عنها خوفاً من الخسارة أو النفوق. والفلاح، الذي يُفترض أن يكون عماد الاقتصاد، يُباع محصوله في سوق الهال بأسعار لا توازي كلفة تعبه، فيتحوّل من منتج إلى ضحية، ومن عصب حياة إلى كائن على هامش الكفاف.
ووسط كل ذلك، ينهار التوازن الاجتماعي، فالعائلة السورية اليوم تُصارع ضعف القدرة الشرائية، ولا تجد في السوق إلا أسعاراً تتصاعد وجيوباً تتآكل.
إنها ليست أزمة زراعة فحسب، بل أزمة كيان. فالأرض التي لا تُروى تُفرغ قلوب أهلها من الرجاء، والجوع لا يهدد البطون فقط، بل يفتك بالكرامة، ويقوّض الأمل.
فلنُنصت لنداء الأرض، ولننحز إلى الفلاح قبل أن يُمحى من ذاكرة الوطن. فالأمن الزراعي ليس ترفاً سياسياً، بل هو لبّ البقاء. وإذا خسرنا الزراعة، خسرنا الإنسان.