السياسة لعبة نعم، ولكنها لعبة العقل الحكيم والمنظّم الذي يحسن استغلال الفرص، لا لعبة لهو المقاهي. والبلاد تدار بسياسة العقل النبيه، الذي يرسم لكل خطوة موقعها في الأرض، لا بقرارات الانفعال التي تقود للهلاك.
السياسة ليست لعبة انقلابات الانفعال وصناعة العداوات غير محسوبة العواقب وطيش مدّ لسان الغضب الصبياني. السياسة فن تحويل الأعداء إلى أصدقاء وظهير لمصالح البلد الذي يتولى الزعيم رسم شؤونه.
أقدم بهذه البداهات للحركة الانفعالية التي أقدم عليها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أخيراً، كردّ منه على عدم استجابة المملكة العربية السعودية تسديد فاتورة الديون التي أثقل بها كاهل الشعب المصري، من دون أن يظهر لها أثر في حياة هذا الشعب، غير إضعاف قيمة الجنيه المصري وارتفاع أسعار المحروقات والسلع الاستهلاكية، لأضعاف ما كانت عليه، في عهد سلفه حسني مبارك.
وقبل أن نسأل ونناقش الرئيس السيسي عن حيثيات الأسباب الموجبة لطلبه، لنسأله عن المشاريع والبنى التي استثمر فيها مبالغ ديونه الخارجية والبالغة (160) مليار دولار!، ولمَ لم تسدد أرباح المشاريع التي نفذتها ولو نصف هذه الديون؟ مبلغ 160 مليار دولار رقم فلكي، قادر بالفعل على بناء بلد بكامله، ومن صفر الأرض المسطحة بالفعل، بناء وبنى تحتية ومصانع ومرافق خدمية و… و… ونهاية بأماكن ومرافق الترفيه… فأين كل هذا على أرض المواطن المصري يا ترى؟ أين استثمرت الدولة المصرية هذه المبالغ، ما دام المواطن المصري ما زال يشكو البطالة وارتفاع أسعار رغيف الخبز وأسعار المحروقات وانخفاض قيمة العملة الوطنية (في عهد السيسي صار تعويم الجنيه المصري لازمة دورية، تخفيض لكل عاميّ ثبات) حتى صارت المئة دولار بنحو (4.967) جنيه مصري.
وهذا يعني، من ضمن ما يعنيه في الحسابات الاقتصادية، أنَّ الناتج القومي في أدنى مستوياته، وأيضاً أنَّ العملية الاقتصادية في أسوأ أشكال إدارتها. أين أنفقت الحكومة المصرية 160 مليار دولار إذن (وهي ديون واجبة التسديد مع فوائدها) التي من المفترض أن الدولة قد اقترضتها من أجل إقامة وبناء مشاريع الإنعاش الاقتصادي والبنى التحتية؟
بددت هذه المليارات في غير ما اقترضت من أجله، ولهذا فهي لم تنتج عائداً يسددها، وهكذا تراكمت كديون مع مستحقات فوائدها.
من يجب أن يسدد مبالغ هذه القروض؟ الخزينة المصرية، كما يقول منطق الحساب والعقل، إلا أن الرئيس السيسي له رأي آخر (السعودية هي من يجب أن تسدد هذه الديون)! لماذا وبأي حق يا سيادة الرئيس؟ بحق خدمة استحقاق الأخت الكبرى مصر أولاً، وبحق أن المملكة (قد بددت) أضعاف هذا المبلغ، بتقديمه هدية لرئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، خلال زيارته الأخيرة للعربية السعودية.
سيادة الرئيس، المملكة العربية السعودية لم تقدم سنتاً واحداً لترامب، كما أوصلتك أفكار وحسابات المقاهي هذه، بل هي استثمرتها من أجل راهن ومستقبل مواطنيها، وفي مختلف القطاعات الاقتصادية والسياسية، التي منعتك سحب دخان الأراكيل التي تحيط بك عن رؤيتها، وهذا القول من أجل تصحيح رؤيتك القاصرة فقط. وإلا فإنَّ المملكة العربية السعودية، التي قدّمت أضعاف مبلغ ديونك الحالية، كمنح وهدايا للشعب المصري، طوال العقود الماضية، فهي تتصرف بعائدات خيراتها، وكما تقتضي مصالح مواطنيها، وليس من حق أحد أن يحاسبها على هذا، كائناً من يكن. ولكن ولأن منطق العقل هذا، لا تفهمه انفعالية العسكرتاريا التي تتلبسك، لجأت إلى أسلوب الانتقام الانفعالي، غير المحسوب سياسياً واستراتيجياً، بعواقبه، مددت لسان سخريتك، بكل صبيانية وقلت.. سأنتقم.
بمَ ستنتقم يا سيادة الرئيس؟ بالتحالف مع إيران!
وطبعاً سبقت وصول عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، إلى ميناء القاهرة الجوي، أربع طائرات شحن ضخمة، محمّلة بمبلغ ديونك، قبل وصوله ليسمع منك طبخة انفعالك ويعدك بتنفيذ بنودها.
سيدي الرئيس، ثمة خمس دول عربية سبقتك في التآمر على المملكة، بالاتفاق، بل وبالتذلّل لإيران، ولم تجنِ من تذلّلها هذا غير الخراب ونهب ثرواتها ومصادرة سيادتها وسحق كرامة مواطنيها، وهي لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين، فهل عزّ عليك أن يبقى هذا الرقم فردياً، فتريد تقديم مصر لهذا المذبح ليتزاوج العدد؟
ماذا ستقدم لك دكة الولي الفقيه، وهي ليست سوى مذبح، سيدي الرئيس، غير السلاح والعتاد وتقول لك حارب ونحن من ورائك، كما فعلت مع من سبقوك؟
كيف سيساعدك التحالف مع إيران على الانتقام من المملكة سيدي، وإيران لا تقدّم، لمن يذل نفسه لها، غير أن تحوّله إلى ميليشيا تقاتل بالنيابة عنها؟
هل تريد تحويل الجيش المصري إلى ميليشيا بيد الحرس الثوري، سيدي الرئيس؟ قبل هذه الخطوة أتمنى أن تخرج من تفكير المقاهي الانفعالي وتعود إلى قصرك المنيف لتفكر في مصير الميلشيات الخمس التي باعت نفسها لإيران والنهاية التي انتهت إليها... هل تحفظ أسماء تلك الميليشيات أم أرددها عليك… سيدي الرئيس؟