: آخر تحديث

دربوا طلاب الدكتوراه ليكونوا مفكرين لا مجرد متخصصين

5
4
4

انتشر مقال "دربوا طلاب الدكتوراه ليكونوا مفكرين لا مجرد متخصصين" لغوندولا بوش بشكل واسع على الصفحات الأكاديمية لوسائل التواصل الاجتماعي، مما أثار اهتمام العديد من التدريسيين والباحثين. الملفت للنظر أن هذا الاهتمام الكبير جاء بالرغم من عدم ترجمة المقال إلى اللغة العربية، وهو ما يشير إلى أهميته ومضمونه القيم الذي يلامس قضايا جوهرية في التعليم العالي. تجادل بوش بأنَّ برامج الدكتوراه الحالية، لا سيما في العلوم الطبية الحيوية، غالبًا ما تقصر في دورها من خلال إعطاء الأولوية للمعرفة المتخصصة للغاية على التفكير النقدي الأوسع والفهم الشامل للعملية العلمية، وتؤكد أنَّ هذا النهج ينتج باحثين ذوي تركيز ضيق بدلًا من حلالي مشكلات متكاملين.

بينما تقر بوش بوجود بعض التخوف الأولي من أعضاء هيئة التدريس بشأن الابتعاد عن التدريب المتخصص التقليدي، إلا أنها تعتقد أن تعزيز التفكير النقدي سيؤدي في النهاية إلى علماء أكثر ابتكارًا وموثوقية ووعيًا أخلاقيًا. ويعكس عملها إدراكًا متزايدًا بأن اتباع نهج أكثر شمولية في تعليم الدكتوراه أمر ضروري لإعداد الباحثين للتحديات المعقدة للمشهد العلمي الحديث.

لماذا يجب أن نستلهم أفكار غوندولا بوش لإنقاذ شهاداتنا الجامعية في العراق؟
في خضم التحديات التي تواجه التعليم العالي في العراق، حيث أصبحت شهاداتنا الجامعية، وبخاصة الدكتوراه، مثار جدل كبير بسبب ميلها نحو التلقين والبحوث السطحية المستوردة، تأتي مقالة بوش لتضيء لنا طريقًا للخروج من هذا المأزق. إنَّ أفكارها ليست مجرد تنظير أكاديمي، بل هي دعوة ملحة لإعادة التفكير في جوهر التعليم العالي، وهي دعوة تكتسب أهمية قصوى في سياق الجامعات العراقية التي تدهورت فيها قيمة الشهادات بشكل ملحوظ.

تحويل الهدف من الشهادة إلى العلم والتفكير النقدي
تشخص بوش بدقة المشكلة الأساسية في برامج الدكتوراه الحالية، وهي أنها تركز على إنتاج متخصصين ضيقي الأفق بدلًا من مفكرين نقديين قادرين على فهم الصورة الأكبر. هذا الوصف ينطبق تمامًا على الوضع في الجامعات العراقية، حيث أصبح الحصول على شهادة الدكتوراه غاية بحد ذاتها، لا وسيلة لتحقيق التقدم العلمي أو الفكري. الطلاب غالبًا ما ينخرطون في بحوث تعتمد على أفكار مستوردة ومستهلكة، يفتقرون إلى الأصالة والعمق النقدي، والهدف الأسمى هو إنجاز "بحث التخرج" للحصول على اللقب، وليس المساهمة الحقيقية في المعرفة أو حل المشكلات المجتمعية.

تطالب بوش بأن يزود تدريب الدكتوراه الطلاب بالقدرة على التعرف على الأخطاء وفهم قيود العلم والنظر في الآثار المجتمعية لبحوثهم. هذه المبادئ هي بالضبط ما نحتاجه بشدة في العراق. ففي ظل بيئة أكاديمية تقدّس "الإجابات النموذجية" وتقلل من شأن التساؤل النقدي، يخرج حاملو الدكتوراه غالبًا غير قادرين على تحدي الأفكار السائدة أو تطوير حلول مبتكرة للمشكلات المعقدة التي تواجه بلادنا. إنهم يفتقرون إلى "عين الناقد" التي تسمح لهم بفلترة المعلومات، وتمييز البحث الرصين من السطحي، وتوليد أفكار أصيلة.

إصلاح المناهج: نحو التفكير الشمولي والبعد الأخلاقي
تقدم بوش مبادرة R3 Graduate Science في جامعة جونز هوبكنز كمثال يُحتذى به، حيث تدمج هذه المبادرة دورات في الأخلاق، ونظرية المعرفة (Epistemology)، والمهارات الكمية. إنَّ تطبيق مثل هذه المناهج في جامعاتنا العراقية يمكن أن يحدث ثورة حقيقية. فتعليم الأخلاقيات البحثية ليس رفاهية، بل هو ضرورة قصوى لوقف ظاهرة الانتحال الأكاديمي والبحوث غير النزيهة. كما أن فهم نظرية المعرفة يمكن أن يساعد الطلاب على فهم كيفية بناء المعرفة، وتحدي الافتراضات، وتطوير رؤى جديدة.

في العراق، حيث يبدو أن كثيرًا من بحوث الدكتوراه هي مجرد تكرار أو تجميع لأفكار جاهزة، فإن التركيز على هذه الجوانب يمكن أن يعيد لشهاداتنا قيمتها. يجب أن نعلم طلابنا "كيف يفكرون" بدلًا من "ماذا يفكرون فيه". يجب أن نشجعهم على طرح الأسئلة الصعبة، والتشكيك في المسلّمات، والبحث عن حلول مبتكرة من قلب الواقع العراقي، لا استيرادها جاهزة من بيئات مختلفة تمامًا.

التحدي الأكاديمي: بناء علماء مبدعين ومسؤولين
إدراك بوش لبعض التخوف من أعضاء هيئة التدريس بشأن الابتعاد عن التدريب المتخصص التقليدي هو أمر مفهوم. فالتغيير دائمًا ما يواجه مقاومة. لكن في حالة الجامعات العراقية، يجب أن نتجاوز هذه المقاومة. إن الوضع الراهن لشهاداتنا لا يحتمل التأجيل. إننا بحاجة ماسة إلى جيل جديد من حاملي الدكتوراه الذين ليسوا مجرد "خبراء" في مجال ضيق، بل هم مفكرون استراتيجيون وقادة فكر وأصحاب رؤى يمكنهم دفع عجلة التنمية في البلاد.

إذا أخذنا باقتراحات بوش، فإننا لا نُصلح فقط برامج الدكتوراه، بل نعيد بناء ثقافة أكاديمية تعلي من شأن العلم الحقيقي والتفكير النقدي الأصيل والمسؤولية الأخلاقية للباحثين. إنها دعوة للجامعات العراقية لتتحول من مصانع للشهادات إلى حاضنات للأفكار، ومن مراكز للحفظ إلى منارات للتفكير. إن مستقبل التعليم العالي في العراق، وبالتالي مستقبل البلاد ككل، يعتمد بشكل كبير على مدى استعدادنا لتبني هذه الرؤية والعمل على تحقيقها.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.