: آخر تحديث
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ النقد اليومي:

هَلْ نَحْنُ هُوَاةُ أَذَى الذَّاتِ وَطَعْنِ أُولِي الأَمْرِ؟

5
4
3

النقد الحياتي اليومي ليس هواية. نقد الموقف. النقد الحقوقي. النقد الأخلاقي للسلطة. النقد المدافع عن حياة وكرامة الناس، إلى آخر ما هنالك من نعوت وتعريفات ونقود. ليس مجرد مغامرة، أو مشاكسة، أو مناكفة، أو مناكدة، أو استعداء، أو نزوة يعبّر بها صحافي أو كاتب أو مثقف عن نزق ذاتي، ولا هو ثأراً ضد ذوات، بل استئثاراً على الذات، بل ولا هو رغبة عابرة في تسجيل موقف لمجرد أن يُقال: "ها قد كتب!". بل هو استجابة للوجع، وانحياز للمظلوم، وصرخة ضد الاستبداد، مهما كانت صورته، وزمنه، وأدواته.

نحن لا ننقد لأننا نكره شخصًا، أو نعادي هيئة، أو نغار من منصب. لا نلتفت إلى شكل شاربي السلطوي، أهما محفوفان أم مرخيان، ولا إلى طول ذقنه أو انحناء قامته، ولا إلى لون عينيه، ولا إلى سحنة وجهه، ولا إلى اسمه أو عشيرته أو دينه أو قوميته. لا تهمنا هذه القشور حين يكون المضمون موبوءًا بالتسلط، ملغومًا بالقهر، متورمًا بالدم.

لكن، هل نحن هواة نقد لأجل النقد؟

لو كان النقد غايتنا، لما نزلنا إلى الوحل بأقدامنا، نواجه سهام الشتم والتخوين والتشهير. نحن لا نطلب المعارك، بل نحاول اتقاء الصمت الذي يقتلنا. لا نحمل معاول الهدم، بل مصابيح الإضاءة، ولو كُسرنا بها. لسنا خصوماً نبحث عن غنيمة، بل شهودًا نبحث عن صوت يوقظ الضمير.

ولأننا لا نعيش على "قمامات الحياة"، فنحن لا نعتاش على التربص بأسماء وأحداث وهنات، لنوغر صدور أولي الأمر بأن: " أن عودوا إلى من تتحدثون وتتمايزون وترتقون بأسمائهم!”، وليس كما يفعل محترفو الإيغار والتقارير السوداء، من حولكم. نحن لا نعيش من الكراهية، بل نُجرح من الخذلان.

نحن ننقد لأن هناك ضحية. لأن هناك جائعًا مسلوب البيت، مقهورًا، ملاحقًا، خلف القضبان، فقط لأنه نطق بكلمة، أو رفع رأيًا، أو دافع عن كرامته. ننقد لأن التوحش لا يُواجه بالصمت، ولا يُسترضى بالانحناء، ولا يُداوى بالتطبيل. لسنا صيّادي زلات، ولا من هواة الصراخ في الفراغ. لكننا حين نرى أنياب القمع تنغرس في جسد الحقيقة، نصرخ بملء أصواتنا، من دون أن نبالي بما سنتعرض له. حين نرى دولة تنهار بفعل سُرّاقها، وكرامة تُنتهك على يد من يُفترض أن يصونوها، نقول كلمتنا، مهما كان الثمن.

المنقود، في منطقنا، ليس اسمًا، أو لقبًا أو هوية إثنية أو دينية، بل هو فِعل، وسلوك، ونمط هيمنة. نحن ضد كل نظام قهري، أيًّا كانت مرجعيته. ضد كل صوت يعلو على الصوت الحر. ضد كل سلطة تُطلق أيدي منفلتين يتجبرون على الضعفاء، باسم الدين أو الوطن أو "الشرعية الثورية" أو "التفويض الشعبي".

نكتب عن دائرتنا الضيقة، نعم. عن محيطنا المباشر، عما نشهده ونحياه. نعرف أن العالم ملآن بالمظلومين، لكننا نؤمن أن من يتصدى لوجعه القريب، بصدق، يشارك في مقاومة الظلم الكوني. الأقاصي الكبرى لها أهلها، أهل الوجع الأشدُّ حساسية، وهم أولى بالكتابة عنها. أما نحن، فتكفينا الدائرة التي تشهد علينا وتشهد لها أقلامنا. أما جوقات الحكّام، ومن يدافعون عن الطغيان باسم الاستقرار، أو الطاعة، أو "الخوف من البديل"، فنقول لهم: لسنا سذّجًا، ولا هواة رَميٍ عبثي. نحن نقف في وجه جهتين:

الجهة التي تسعى إلى إسكاتنا فعليًا، بأدوات البطش.

والجهة التي تسعى إلى سحقنا معنويًا، بمحاولات تشويه صورنا، وتحقير رسالتنا، ورمينا بكل ما فيهم من أوبئة وأدران، ومن أين لهم الفلاح في ذلك؟!

هؤلاء - غالباً - ما يأتوننا بوجهين. بعضهم من خريجي مدرسة النظام، الذين دربهم على تزييف الحقائق، وتلميع الجلاد. كانوا ينالون منا في المجالس، في المنابر، في الهامش والمتن. وما إن تبدّل البلاء، حتى بدّلوا ولاءهم، فصاروا عبيدًا لصانع البلاء الجديد، وتفننوا في البلاء الخبيث، باللسان والقلم والكرامة المبتذلة.

بعضهم ما زال يكتب بخطابات بالية، كأنهم لم يفهموا أن الزمن تغيّر، وأن الاستبداد لا يُجمَّل، حتى لو غيّر لونه أو لحيته أو شعاراته. يكتبون بمؤخرات مبتلّة، وألسنة مرتهنة، يسوغون  جرائم الدكتاتور - أياً يكن - ويشيطنون من يقف في وجهه، ثم يسألون: "لماذا تنقدون؟".

الجواب بسيط: لأن هناك ما يجب أن يُنقد.

لسنا هواة إلحاق أذى بالذات والذوات، بل مجرد شهود. شهود عصر تتساقط فيه الأقنعة. شهود شعب يموت ألف مرة ولا يموت. شهود على زمن يحتاج إلى من يقول: كفى!

من يخاف النقد؟
الخوف من النقد لا يصدر عن ضمير حي، بل ينبع من هشاشة داخلية تسكن من بنوا مكانتهم على وهم الثبات، لا على قيمة الحقيقة. وحده من يرتعد من كل تساؤل، أو يتوجس من مجرد ملاحظة، يشعر بأن الناقد يهدد وجوده، حتى إن لم يُذكر اسمه.

الناقد، حين يكون صادق النية، لا يمثل سوى ضمير مقهور، وذاكرة من جُرِّد من حقه، وصوت من لا يملك وسيلة ليواجه بها الزيف سوى الكلمة. إنه ليس قاضيًا، ولا طامعًا في سلطة، ولا متربصًا، بل هو شاهد يتكلم حين يصمت الآخرون، ويشير إلى العطب حين يعجز الباقون عن تسميته.

ولذلك، فإنه لا يواجهه إلا من يملكون ما يخسرونه إن ظهرت العيوب. الطغاة لا يحتملون النقد، ليس لأنهم لا يخطئون، بل لأنهم يعتقدون أن سلطتهم تتيح لهم ارتكاب الخطأ دون مساءلة. والمعتاشون على فتات الطغيان، من باعوا كرامتهم مقابل صورة استعراضية أو توصية أو فرصة، يشاركونهم العداء للنقد، لا لأنهم يدركون عمقه، بل لأنهم يعرفون من يخشاه، ويتطابقون معه خوفًا وطمعًا.

بعضهم يهاجم علنًا، يفاخر بأنه يقف في صف السلطة ضد من يسائلها، يبني هويته من خلال التحريض، وكأنه في سباق لحجز مكان في صفوف المنتفعين. وبعضهم الآخر يتستر، يهمس في الآذان، ينقل العبارات المقتطعة، يشير إلى الناقد باعتباره خطرًا على "الاستقرار"، وكأن الحقيقة فوضى يجب إخمادها. كما أن الأشدَّ خطرًا من كل ذلك،  هو كل من يتلحف بعباءة الموضوعية ليخفي حقده، يتظاهر بأنه محايد، بينما ينفث سمه في الخفاء، ويُقنع من حوله بأن النقد جريمة، والمساءلة اعتداء على المقامات.

أجل. إنَّ المشكلة ليست في النقد، بل فيمن لا يرغبون في أن تُوجَّه إليهم الأسئلة. من يخافون ضوء الفحص، ويؤثرون الظل، حيث تتوارى أخطاؤهم بين التصفيق والمحاباة. ولهذا لا يتحملون من يرفع إصبعه ويقول: هذا غير مقبول. إذ إن كل ناقد حرّ عقبة في وجه المكاسب السهلة، والوجاهات الفارغة، والمواقع المصنوعة بلا كفاءة. النقد يُربك، لأنه يُعيد ترتيب الأشياء، ويضع القيم في مواجهة الواقع، ويكشف التناقض بين ما يُقال وما يُفعل.

ولهذا فإنَّ الناقد - ضمن هذا التوصيف - هو أكثر من يُستهدف. أكثر من يُشيطن. أكثر من يُتهم بما ليس فيه.  أكثر من يُحارب. لكنه، رغم ذلك، يبقى، لأنه لا يراهن على القبول، بل على الصدق. لأن ما يقوله ليس ضجيجًا، بل محاولة دائمة لوضع الإصبع على الجرح، لا للشماتة، بل كي لا يتقيح بصمت.

مهرُ التضحية!؟
ما أثقل أن تعيش وفي صدرك نار، تضيء للآخرين طريقهم، وتحرقك. أن تكون شاهداً على الخراب، في بلد يحتفي بالعمى، ويرجم من يرى. أن تكون من يصيح وسط الطوفان: "هنا الغرق!"، فلا يسمعك أحد، بل ينعت صوتك بأنه سبب الغرق. من هنا، فإن الناقد لا يصنع الطوفان،  بل هو من يشير إليه. ولكن أولي أمر البلاد التي تأكل أبناءها على ايديهم، يعادون المرآة، ويكسرونها كلما أظهرت قبحهم، وقيحهم.

إنه الناقد توأم المرآة. صاحب الروح المرآة في مواجهة المراءاة. صاحب الكلمة المرآة. يتناسل في وجهه سؤال لئيم، أينما حل، وواجه آلة الخطأ والانتهاكات: "لِمَ تكتب؟"، يليه آخر أشدُّ حذقًا: "من كلّفك؟". وما من أحد يصدق أنه لا يكتب طمعًا، ولا يدافع بدافع، ولا يُسائل إلا لأن الصمت خيانة، ولأن الكلمة في حلقه ليست ملكه. هي دين.

هكذا، يخسر الأصدقاء الذين لا يصمدون، أحدهم تلو الآخر، لا لأنهم فُقدوا، بل لأنهم اختاروا الخوف طريقًا، أو السلطة ملجأ، أو البدل النقدي عن الحرية.وحده يبقى، يسير بين الأنقاض، يلتقط ما بقي من ذاكرة، ليحفظها. وحين ينهي البيان. أو الشكوى، أو الكتاب، أو المقال، أو الرسالة، يمزق صوته كي لا يبدو ناصحًا، ويخفف لغته كي لا يبدو متكبرًا، يكتبه لهم... وهم أول من ينساه.

لا يرفُّ له جفن حين يُقال: "من هو؟ لم نسمع باسمه!"، لأن ما يريده ليس ذِكرى، بل أثر. لا توقيعًا، بل فعل.

وفي كل مرة، يُجدد خيبته كما يُجدد إيمانه.

هو الناقد الذي يرى الدم على الأرض... ولا يبلل ريشة قلمه إلا كي لا يُمحى الأثر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.