يُعدّ موضوع تبنّي اللون القومي عندنا نحن الكورد من المواضيع المُغيّبة تماماً عن أنظار السياسيين والكتّاب والمثقفين والأدباء والفنانين والمهتمين والمراقبين السوريين عموماً، وهو غائب أيضاً عن كتاباتهم واجتماعاتهم ومؤتمراتهم ونشاطاتهم وكونفرانساتهم وجلساتهم ومهرجاناتهم.
إنني، ومن خلال عملي في مجال (الرسم واللون واللوغو والإعلام والتصميم والتخطيط الكتابي)، أرى أن هناك توجهاً قد يكون مقصوداً، وقد يكون نابعاً أحياناً من ضعف في الثقافة البصرية والفكرية لدى الكثير من الهيئات والأحزاب والاتحادات والنقابات والمجالس الفكرية والسياسية السورية، في مختلف أماكن تواجدها. وكأن ثمة توجّهاً مبرمجاً ومدروساً من قبل هؤلاء، بعدم اعتماد اللون الخاص بالكورد، والذي هو اللون الأصفر، وعدم مزجه مع الألوان الأخرى، وخصوصاً العربية، في تصميم الشعارات والغرافيك واللوغوهات واللافتات والرموز التي تعبّر عن هيئاتهم وإداراتهم وأحزابهم ومجالسهم وخصوصياتهم.
فنحن نرى يومياً نشوء هيئات وأحزاب سورية جديدة، مختلفة من حيث اللون والشعار والرمز والأهداف، وكذلك روابط واتحادات ثقافية وهيئات فكرية ونقابات سورية متعددة، كلها تواصل النشوء والتشكل من جديد... وكلها تعتمد فقط، وحصراً، على اللون العربي (الأخضر والأسود) في بناء تصاميمها وشعاراتها ورموزها، متجاهلةً اللون الكوردي الرمزي، بالرغم من رفع هذه الأطراف لشعار جميل وكبير هو "سوريا للجميع"، وهو شعار يفترض به أن يكون جامعاً ويرفض التمييز بين أحد وآخر.
ولكن، بالرغم من جمال الطرح "سوريا للجميع"، فإن هذا الجمال سيكتمل ويترسخ فقط عندما يُبنى هذا الطرح على بنية فكرية، حضارية، وتاريخية شاملة وجامعة، تشمل كافة مكونات وخصوصيات المجتمع السوري. أما اعتماد أي لوغو أو شعار أو رمز من قِبَل هذه الهيئات بشكل مختزل أو مبتور، لا يحتوي على اللون الأصفر، فإنه ببساطة لا يمثل الكورد في الخارطة الثقافية اللونية والبصرية لسوريا المستقبل.
فالكورد، عبر تاريخهم الطويل، تبنّوا هذا اللون الأصفر كرمز لهم، ولوجودهم التاريخي والحضاري والإنساني والقومي؛ إنه لون الشمس والنار والنوروز، واللون الذي ارتبط بطقوسهم ووجودهم وعباداتهم القديمة الموغلة في التراب. والتاريخ شاهد على ذلك.
هذا الإقصاء الروحي للون الأصفر الكوردي، نجده متجذراً في سياسات الوعي الجمعي للمجتمع، وخاصة السوري الرسمي، كما هو الحال أيضاً لدى كافة الأطياف والتكتلات والهيئات والجمعيات والأحزاب العربية السورية. ونلاحظه كذلك عند الأتراك والفرس، في كل تفصيل من تفاصيلهم الفكرية والرمزية والثقافية. فعلى سبيل المثال، عند النظر إلى الرموز القومية التركية، والدلالات الفنية والثقافية والسياسية والفكرية، لا نجد اللون الأصفر أبداً، لا من قريب ولا من بعيد. حتى قناة "TRT Kurdî" الفضائية، الناطقة بالكوردية، لا تقترب من هذا اللون، وكأنه محظور وخارج الدائرة اللونية.
والفرس يسلكون الطريق نفسه، بسياسات إقصائية تمحو الإرث الحضاري والثقافي الكوردي، حيث إن تصاميم وأشكال ورموز وشعارات نظامهم ودولتهم تتكوّن بنسبة تفوق 90 بالمئة من اللون الأخضر الفاقع، "لون شريط علي بن أبي طالب". ومن خلف هذه السياسات الثقافية والبصرية، يقف جيش كامل من الرسامين والفنانين والمفكرين العنصريين، وعلماء النفس والاجتماع، والسياسيين والعسكريين والمؤرخين، يعملون دون كلل أو ملل، خدمةً لأنظمتهم وأحزابهم ودولهم، بما يرسّخ هيمنة لونهم ورؤيتهم الثقافية.
وها هنا، لا نزال نحن الكورد دون مستوى الارتقاء إلى طرح خصوصيتنا الثقافية واللونية والبصرية بشكل يوازي أهمية الطرح السياسي والفكري.
إن ثقافة الألوان، وتمايزها، واختلافها، واعتمادها كرموز وجودية، هي حقيقة متجذرة عند أكثر الشعوب تحضّراً، وهي ركيزة أساسية في تقديم حقيقة الهوية وتسويق المشاريع والرؤى الثقافية والسياسية والاقتصادية والإنسانية. فالنقاط التي طرحتها حول اللون وتمايزاته ليست تفصيلاً ثانوياً، بل هي نقاط مفصلية وهامة في تأكيد التنوّع والاختلاف والقبول، وهي من صميم الحفاظ على الإرث الحضاري والتاريخي والخصوصية القومية في سوريا المستقبل.
العرب، على سبيل المثال، اعتمدوا اللون الأخضر والأسود في إرثهم، بينما الآشوريون والسريان تبنّوا اللون الأزرق كلون قومي ورمزي ووجودي. فاختيار هذه الألوان لم يأتِ عبثاً، بل كان تعبيراً صادقاً وحقيقياً عن المشاريع الإنسانية والحضارية والثقافية لهذه الشعوب، ورغبتها في التميز داخل الفضاء الثقافي العام لمنطقتنا.
من هنا، يتحتم علينا نحن الكورد السوريين، وبحرص عالٍ على التوازن والتنوع الثقافي، أن نولي اهتماماً بالغاً لألواننا الرمزية القومية، والجغرافية، والتاريخية، والوجودية. هذه الألوان التي تشكّلت منها ومن خلالها قيم وسلوكيات، ولباس، وفولكلور، وثقافات، وأناشيد، ويافطات، وشعارات شعبنا وخصوصياته، في هذه المنطقة التي نعيش فيها جنباً إلى جنب مع شعوب أخرى، فيما يُعرف اليوم بـ "سوريا".
علينا، اليوم، أن نُركّز على تبنّينا للوننا الخاص، بكل جرأة وقوة وثقة، وأن نُفعّل حضوره في تشكيل ورسم ذواتنا، ونمزجه مع ألوان الشعوب السورية الأخرى، عند تصميم أي درع أو علم أو لوغو أو شعار أو بطاقة أو رمز أو يافطة... أي منتج بصري أو رمزي يتعلق بسوريا الغد، سوريا التي يُفترض بها أن تعبّر عن كل شعوبها وأقوامها، دون تمييز أو تهميش.
علينا ألا نقع مرةً أخرى في فخ إنتاج واستنساخ ثقافة البعث، بسياساتها القديمة من محو، وإقصاء، وتهجير، وتعريب البشر والحجر.
فمن الواجب، أخيراً، أن نضع الحقيقة في موضعها الصحيح، وأن نقترب من جوهر الأشياء، ونسميها بمسمياتها، سواء كانت روحية، اجتماعية، جغرافية، تاريخية، أو قومية، بكل ما فيها من تنوّع واختلاف.