كل ما تظنه (أنت) هو نتاج توزيع ذكي لخلايا لا تحمل ولاءً لأحد.
تسعة من كل عشرة كائنات تعيش داخل جسدك… لا تنتمي إليك، بل الأسوأ من ذلك: أنت تعمل لديها… لا العكس.
لدى البشر عادة سيئة في اختلاق القصص لتسكين الرعب، سمّوا أنفسهم (كائنات عاقلة) فقط لأنهم يكتبون الشعر عن الكواكب، ويبكون أمام أفلام الحب الرديئة، لكن الحقيقة البيولوجية أكثر فجاجة مما يتحمله الشعر.
أنت يا صديقي مجرد مستعمرة، بمعنى أكثر وضوحاً أنت عبارة عن مشروع بيئي تم تشكيله ليخدم التوازن الداخلي لكائنات لا تُرى بالعين المجرّدة، وأنت صدّقت أنك (الفرد) الذي يملك القرار.
مزاجك؟
ربما حسمه نوع الزبادي الذي تناولته قبل أسبوع، لا طفولتك.
قرارك؟
ربما صُنع في أمعائك حين انفجرت مستعمرة صغيرة من (البروبيوتيك).
شخصيتك؟
توزيع مرحلي لتفاعلات عصبية لا تعرف الرحمة ولا الشكوى… فقط تؤدي وظيفتها.
أنا أفكر إذن أنا موجود؟
كلا، أنت تتخمّر، إذن أنت مفعول به يا صديقي العنيد، وما نسميه بالوعي ليس أكثر من الواجهة الرسومية لجهازٍ يعجز عن فهم خوارزميته، وكل ما نملكه هو إحساس مزيف بالتسلسل، تشاهد فيلم حياتك ولا تعلم أنك لست البطل… أنت الشاشة، ومع ذلك تمتلئ بالغرور الغريب.
المرعب في الأمر أن هذه الكائنات التي تسكنك لا تعرف عنك شيئاً، هي ببساطة لا تُحبك، لا تكرهك، لا تكترث لفوزك في المناظرة أو انهيارك في ممر المستشفى، هي فقط تفعل ما تفعل لأنها تحافظ على البقاء، تتكاثر، تفرز، تستوطن، وكلما شعرت بالانتصار… تتجدد دون أن تحسب حسابك.
تعال لنقرأ الجزء الأكثر إثارة من الحكاية. هل تشعر بالإلهام الآن؟ ربما لأن البكتيريا المعوية قررت أنها تريد أن تفرز قليلاً من (الدوبامين)، لا لأنك وجدت فكرة عبقرية، بل لأن شيئاً ما حدث في مكان لا يمكنك الوصول إليه. وهنا يظهر السؤال: من أنت إذاً؟
الإجابة الأسوأ هي:
أنت نظام تشغيل خلقه الخالق العظيم لتطوّر تنسيق حياة المستعمرة، أنت وهم يحمل الاسم (أنا) فقط لأن التواصل بين مكوناتك يحتاج لكذبة تجمعها.
ولو قررت البكتيريا الانتحار الجماعي… ستموت، قبل أن تكتشف أنك لم تكن وحدك أبداً.
كل فكرة عن الاستقلال… مزحة.
وكل غطرسة وجودية عن أنك (ذاتك)… نكتة.
وكل قرار ظننت أنك اتخذته بوعي… مرّ من مجلس كائنات لا تعرف أسماءها.
الإنسان ليس سوى عنوان بريدي لحياة أخرى لا تُرى، وهو اللغة المشتركة بين مليارات الخلايا التي تحمل جوازات سفر مختلفة، تحت جلدك… تجري مؤتمرات جينية لا تُدعى إليها، وفي دمك… تدور معارك لا تملك فيها سيفاً ولا درعاً، وفي مخك… تجلس على كرسي ملكي صوري، بينما الحكم الحقيقي يدور في القبو العصبي حيث لا تُسمع القرارات… بل تُفرَض.
الفلسفة حاولت فهمك،
الفيزياء حاولت احتواءك،
لكن البيولوجيا وحدها من صفعتك بالحقيقة: أنت لا تملكك.
والمثير للسخرية أن وهمك مصنوع بإتقان.
(أنت) مبرمج لتشعر أنك حر، أنك تملك مشاعرك، أنك قائد السفينة.
لكن كل ما تراه من نوافذ الوعي… مجرد إسقاط ضوئي على جدارٍ يقف خلفه نظام بيئي له قوانينه ومصالحه.
عندما تبكي… هناك كائن ما يرتاح.
عندما تغضب… هناك توازن ما يُعاد.
عندما تحب… هناك هرمون يبحث عن هدف.
أنت معادلة لا تساوي نفسها…
فحين تحاول أن تقول (أنا)، يهمس العلم من الخلف: قل (نحن)؟
الوهم الأنيق الذي تسير به في حياتك… هو قناع لحقيقة لا تجرؤ على مواجهتها.
والأسوأ؟
أنك إذا واجهتها… لن يصدقك أحد، لأن المستعمرة ستمنعك من قولها، ولن تسمح لك بالجنون، لأنه ضد مصلحتها، وستقودك مُرغماً إلى أقرب ابتسامة، أقرب غذاء، أقرب حالك شعورية… فقط لتظل تمشي، وتبقى أنت: الوهم الناجح!