: آخر تحديث

التمثيل والكتابة والضجيج: عن موت القراءة وغياب المرجعيات!

13
9
7

ما إن يُطرح رقم ثلاثة ملايين كردي، كعدد تقريبي في أقل تقدير للكرد في سوريا، داخل حدود كردستان سوريا وفي المدن السورية الأخرى، حتى يُبيّن حجم الكتلة البشرية التي تستحق أن يتم تمثيلها في أي حوار مفصلي، لعوامل كثيرة، يمكن المرافعة عنها في موضع آخر خارج هذه الوقفة. فلا فضل لأحد على آخر، ولا امتياز خارج الكفاءة والنزاهة، ولكن هناك أولويات. لا يمكن أن يكون الصوت الأعلى، أو الأكثر مزاحمة، هو الأدق أو الأصدق. ولا يمكن أن تكون الكاميرا، أو عدد المتابعين، شهادة تزكية كافية.

أقول هذا من خلال موقف متابع محض، لا من موقع ناقد فقط، بل بصفتي أحد الذين عايشوا الكتابة والقراءة لأكثر من نصف قرن، ممارسة وتفاعلاً. كانت الكلمة المنشورة ذات يوم نافذة وعي وأداة تحول. الراديو كان وسيلة سريعة لتلقي الخبر، والتلفاز أخذ حيزاً لاحقاً، لكنه لم ينتزع مكانة الكتاب أو الجريدة أو المجلة. الكلمة المكتوبة كانت أقوى أثراً، أعمق نفاذاً، وأشدّ رسوخاً. الآن، انقلبت الآية.

لم يعد الكاتب يُقرأ، وهذه مفارقة مفجعة، وها نجد ديجيتالياً أمياً أكثر تأثيراً من أي كاتب كبير، ولا يتورع عن التنطع لترشيح اسمه كممثل:

لم لم أكن من ضمن الوفد الكردي؟

لم لم يكن فلان من ضمن الوفد الكردي؟

في مدينة قامشلي، كان من يكتبون في الصحافة السورية أو العربية الجادة – في أوج زمن الكتابة – عندما كانت الكتابة في مواجهة السلطة خطراً على الذات والمحيط – لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، ومن يكتبون أدباً – بكل مستوياته – المرضي عنه وغير المُرضي، في آن، لا يتجاوزون العشرين كاتباً، من مختلف الطيف الفسيفسائي الجميل. اليوم، في كل بيت، ثمة شخص يكتب أو يظهر أو يتحدث باسم الآخرين، عبر وسائل التواصل الافتراضي: كتابة أو صورة افتراضيتين، بعد أن صار النشر أو البث الافتراضي اليومي، سواء على وسائل التواصل أو التطبيقات المرئية، مرجعين وهميين موهمين للجمهور.

هل ازدادت القراءة في هذا السياق؟ نعم. لكنها في غالبها قراءة سريعة، هشّة، استعراضية. بات كثيرون يكتفون بقراءة العناوين، بعد أن كان هذا السلوك مقتصراً على قلة من هواة اقتناء الكتب دون قراءتها. تغيّر الزمن، ولم تتغير الحاجة إلى العمق.

ما دعاني للكتابة هنا، هو هذا التجاهل المؤلم لأسماء من يكتبون، ومن يواظبون على البحث والقراءة والإنتاج، وذلك ضمن حملات الترشيح العاطفية التي تتكرر كل مرة، حيث يُقدَّم من يجيد الترويج لذاته، أو من يحظى بشعبية لحظية، ويُقصى من بنى تجربته على أساس متين.

كاتب جاد مثل د. محمود عباس – أكثر الكرد غزارة كتابية متواصلة ومتابعة للشأن الكردي – يكتب كل يوم، منذ تأسيس الصحافة الإلكترونية، قبل ربع نصف قرن، ولا تزال أعداد قراءاته محدودة، كردياً، وهكذا أ. إبراهيم محمود. وذكري لكليهما يأتي من قبيل الإشارة إلى أن أي ترشيح لأكاديميين أو كتّاب ينبغي أن يبدأ من هنا: من الذين ظلوا في الطليعة بالفكر، لا بالشكل، سواء تعلق الأمر باتحادات كتاب، أو منظمات مدنية، أو أي منبر للحوار الجاد.

في المقابل، قد تجد أمياً يدوّن منشوراً منقولاً، لا يتجاوز السطرين، ويحظى بآلاف المتابعين. بل تجد من لا يقرأ ولا يكتب، يطلب من باحث مختص أن يعينه في موضوعات ذات طابع بحثي عميق، لا يمتلك عنها سوى عنوانها، كموضوع الإيزيدية مثلاً، بينما هو لا يعرف منه إلا عنواناً مبسطاً. أرسل له روابط ومقالات وخلاصات، فرد عليه: "أرجو منك كتابة بضعة أسطر، أنا مافيني أقرأ". هنا لم يعد الباحث المستعان به قادراً على الاستمرار في تلبية مطلبه.

لقد طُرحت أسماء كثيرة لمراجع كردية يمكن الاستناد إليها – من أجل المهمة الخاصة ذاتها – في الحوارات المصيرية الكبرى، ويمكنني أن أضيف إليها كما مئات الأسماء الأخرى، وأعتذر عن عدم إمكان إيرادها كلها، لكن الرؤية غالباً ما تكون عاطفية، انتقائية، تستند إلى الزاوية لا إلى المشهد الكامل. ومع ذلك، لا يمكن نفي الجهد المبذول من أحد. فكل من يكتب أو يعبّر، هو مشكور، ما دامت النية خالصة.

وبما أننا في صدد الحوار، فإنني أعرف شخصياً نصف أعضاء وفد كردي الجديد، ومن خلال علاقتي الممتدة زمنياً مع أكثرهم الذين عملنا معاً عن قرب، وأستطيع أن أقول بثقة: إنهم صالحون لافتتاح أو إرساء دعامات أي حوار استراتيجي. فهم ليسوا ملاكمين ولا شتّامين، لكنهم يتمتعون بالصبر، والحكمة، والخبرة. ومن هنا، أرى أن هؤلاء جميعهم قادرون على وضع حجر الأساس الذي يُبنى عليه التوازن، واستمرار الحضور السياسي المتزن.

لكن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن الوفد الذي يمثل شعبنا – بحق – من خلال وجهة نظري، كان يحتاج إلى إعداد أفضل، ومراجع متعددة: سياسية، قانونية، إعلامية، لوجستية... وذلك بالتوازي مع مرحلة تشكيله.

وقد يكون من المفيد التذكير بما جرى مع قيادة الكتلة الكردية في الائتلاف، والتي لم تستعن إلا بالمقربين بهذا الشكل أو ذاك، ففقدت كثيراً من زخمها. بالرغم من أن هناك من ضحى، نعم، هناك من ضحى، وهناك من اجتهد، لكن ذلك لا يعفي من مسؤولية التقييم النقدي.

أعترف بأنني لا أعرف بدقة من شارك من بعض الأسماء الجديدة التي ظهرت بعد مغادرتي الوطن، إلا أن وجود النساء – تحديداً – ضمن الوفد أقدّره عالياً، لأن مشاركة المرأة الكردية ليست ترفاً، بل ضرورة لاكتمال أي تمثيل حقيقي.
وأرى أن الوفد – بالرغم من كل الملاحظات الناتجة عن معرفة شخصية أو عامة ببعض أفراده – يمثلني كشخص، إذ جمعتنا ميادين عمل مع مقربين من الطرفين، الذين كان لهم حضور آنذاك.
كل كردي يُوفَد ويجسد مطالب شعبي بشجاعة، يمثلني.

الشجاعة مطلوبة، إلى جانب الحكمة والخبرة والتاريخ النضالي. نعم، قد تكون لدي ملاحظات على كل واحد منهم، وهذا أمر طبيعي في أي تشكيل سياسي أو مجتمعي، إذ لا يمكن أن يتكوّن أي وفد واقعي بلا ملاحظات.
من كان في الصف الأول، وتحمّل أعباء المرحلة، يستحق أن يكون في واجهة الحوار، لا أن يُستبدل بأسماء تقفز من موقع إلى آخر دون مرجعية واضحة.

عامل الشجاعة في زمن الرعب يجب ألا يُغفل. التجربة التاريخية لا تُقاس بالمواسم، بل بمن وقف حين تراجع غيره، ومن تكلم حين صمتت الحناجر، قبل سقوط جدار الرعب. إذ هناك من يرشّحون ذواتهم اليوم، ولم يكن لهم في زمن الخطر أي حضور، لا في الكلمة، ولا في الموقف، ولا حتى في مجرد التعليق، إلى جانب أسماء أخرى اجتهدت بصمت، وأضاءت الفكرة دون أن تتسلق الضوء.

موت الكتابة أمر واقع. موت القراءة واقع أيضاً. لكن موت المصداقية هو الأخطر. لا نريد وفوداً تكرر ما سبق. ولا نريد كتاباً بلا قراءة، ولا قراءً بلا وعي.

كلهم مستحق. أجل، لكن ليس جميعهم مؤهلاً بالدرجة نفسها. وهنا تبدأ معركة التمثيل الحقيقية: أن يمثل من يحمل هموم شعبه، ويقرأ، ويكتب، ويفهم... لا من يتقن الظهور فقط، من عداد أولئك الذين يمثلون شعبنا خير تمثيل بحق.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.