: آخر تحديث

دمشق: ممنوع التنفس!

3
3
3

بينما تتجه المدن نحو الضوء، يُفترض على دمشق أن تنكمش أكثر، وتتجلبب، كما لو أن الخوف صار قاعدة لا استثناء. الأصوات تخفت، الموسيقى تُكمم، والوجوه تبحث عن ظل يقيها من رقابة لا اسم لها سوى الرعب.

في هذا الصيف، لم تعد الحرارة المشكلة. لكن ما أثقل النفَس! إنه شعور عام بالاختناق، كأن العاصمة كلّها وُضعت تحت غطاء خانق، لا يتسع للبسمة، ولا لتنهيدة هاربة من تعب الحياة.

ليل المطاعم لم يعد ليلًا. تحوّل إلى مساحة مراقبة، يسير فيها الناس كما في ساحة عسكرية. نظرات لا تطمئن، همسات خافتة، وخوف من نظرة قد تُفهم على غير معناها. في مطعم شعبي، اقتحم رجال الأمن المكان، التقطوا الصور كما لو أن الجالسين متهمون، وجرمهم الوحيد أنهم قرروا الخروج من عزلتهم إلى طاولة، بعد أربعة عشر سنة من الحرب ورائحة الموت والرعب!

في مكان آخر، موسيقى انقطعت برصاصة. سهرة توقفت بالصراخ، لا بالتصفيق. ملهى لم يخرج منه بعض الحضور على أقدامهم، بل على نقالات.

لا بيان. لا تفسير. لا مساءلة.

إقرأ أيضاً: ليس دفاعاً عن الشيخ الهجري: حين تستنجد الطائفة بأخلاقيات الدولة المهدورة

ثم أُعلن التعميم. ليس في الخفاء، بل في بيان رسمي. على النساء أن يعدن إلى "الحشمة"، لا كخيار اجتماعي، بل كأمر. المدينة التي طالما عُرفت بتنوعها، تُحاصر الآن بوصايا وعظ، ونبرة فوقية تخاطب جميعهم كأنهم طلاب في ساحة تفتيش. لا أحد يسأل كيف، ولا لماذا.

هكذا فقط، يعلن الصيف في دمشق عن نفسه: لا فرح، لا فسحة، لا طمأنينة!

مجرد قيود... وملامح غاضبة.

المدهش أنَّ ما يُفرض اليوم، لم يعد يُمارس حتى في بلاد كان يُضرب بها المثل بالتشدد. مدن تخلّت عن جلد الناس بالسوط، في حين تُستنسخ التجربة هنا، وكأننا نُربّى على الخوف من جديد، وكأنَّ الحلم ممنوع، والفرح مريب، والموسيقى مادة لتحقيق أمني.

ليست هذه رقابة أخلاقية. هذه إهانة للإنسان باسم الأخلاق. ليست عودة إلى الدين، بل سقوط في فخ تديين القمع.

إقرأ أيضاً: الدروز واستهداف الكيان: فتنة المذهبة ومسؤولية الدولة المتخيلة

أجهزة تتحدث باسم الضمير، لكنها تنفذ بالأحذية وأخمص الرشاشات في أفضل الأحوال إن لم يكن بالرصاص!

سلطة لا ترى في الرقص إلا سقوطًا، ولا في الاختلاف إلا تهديدًا، ولا في صوت الحياة إلا ضجيجًا يجب إسكاته.

ما يحدث في دمشق ليس دفاعًا عن "قيم"، بل حربٌ على القيم، على المعنى، على الشخصية، على الخيار الشخصي.

من قرر أن يتحوّل رجال الأمن إلى وعاظ؟ ومن سمح بأن يتحوّل الملهى إلى ساحة دم؟

لماذا لم يعد ممكنًا أن تجلس امرأة حتى مع ابنها في مطعم دون أن تُحاصر بالكاميرات؟

لماذا يخاف الشاب أن يضحك، والفتاة أن تختار لون فستانها؟

إقرأ أيضاً: مأثرة التدوين وسقوط التخوين

ليس الخطر في التعميم، بل فيما يليه. حين يعتاد الناس الطاعة خوفًا، لا قناعة. حين تتحول العاصمة إلى معسكر لا مدينة. حين يُصادر الأمل باسم التحصين، وتُغلق النوافذ بحجة الفضيلة.

هذه ليست مدينة تخوض حربًا. هذه مدينة تُعاقب لأنها ما زالت حيّة.

من يغتصب السلطة لا يزال يقرّر ويدوس دستورًا ويحاصر وطنًا ومواطنًا. إلى حد الاختناق...!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.