كلُّ سيرةٍ أصيلة لا تبدأ من المجد، بل من الشروخ الصغيرة التي تَخُطُّها الذاكرة على جدران الروح. وسيرة ملكون ملكون لا تحيد عن هذا الناموس، فهي تنبع من صباحٍ غريب، صباحٍ مشبعٍ بندى الدهشة، نَزَلَ فيه المطر خفيفاً على أرصفة القامشلي، كأنّه غسيل خفيف لذاكرة مدينة تحاول أن تتذكّر ذاتها. كان التراب النديّ يعبق برائحة تشبه الحنين، وكان صوت فيروز ينبثق من المذياع ليغزل حول المدينة وشاحاً غير مرئيّ من الحنان، كما لو أن الذاكرة قررت أن تكتب افتتاحيتها بلغة الماء.
على هامش القامشلي، حيث تختلط الجغرافيا بالأسطورة، وتُحاذي الحسكة بخجلٍ قديم، كانت تقف مكتبة صغيرة تُدعى "دار اللواء". لكنها لم تكن مجرّد دكّانٍ للورق والحبر، بل كانت نافذةً سريةً تطلّ على عالمٍ آخر، عالمٍ يعجّ بالأسئلة، بالهروب الخلّاق، وبالهويّات المتخيّلة التي لا تقبل القوالب. كانت المكتبة، في عين طفل، تشبه المعبد؛ لا يدخلها إلا من يشعر بنداءٍ داخلي لا يعرف له اسماً.
في أحد تلك الأيام، دخل الطفل ملكون بخطى تشبه التأمّل أكثر من الطفولة. لم تُغْرِهِ الحلوى التي أوصته بها والدته، بل جذبه غلافٌ ملوّن لمجلة "الصقر" كانت تقف على الرف كمن يدعوه للانتماء. لم تكن المجلة مجرّد ورق، بل كانت بوّابة عبور. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد الورق مادة جامدة في حياته، بل صار وطناً بديلاً، ذاكرة موازية، وسيلة مقاومة ضد النسيان.
لقد كانت تلك "الجريمة" الطفولية ـ أن يفضّل مجلة على الحلوى ـ هي أول إعلان ولاءٍ لعالمٍ سيعيد فيه تعريف ذاته. فالطفل الذي أمسك مجلة الصقر بيدٍ صغيرة، لم يكن يعلم أنه بدأ رحلة طويلة نحو الصحافة، لا بوصفها مهنة، بل قدَرًا؛ نحو الكلمات، لا كأدوات تواصل، بل ككائنات حيّة تشاركه وحدته وتؤثث عزلته.
منذ تلك اللحظة، لم يعد ملكون ينتمي بالكامل إلى حاضر الطفولة، بل إلى شيء آخر يراوغ اللحظة ويخترقها، إلى الدهشة التي توقظها اللغة حين تلمس قلباً طرياً. لم يكن الشغف بالرياضة عنده مرتبطاً بتسجيل الأهداف ولا بانتصارات الفرق، بل كان افتتاناً باللغة، بإيقاعها، بقدرتها على حمل المعنى وتفجير العاطفة. كانت الكلمات كائنات حيّة، لها أنفاس وأمزجة، تحزن وتفرح وتغضب وتحب.
في عام 1981، وبينما كانت البلاد تتخبّط في تحولات اجتماعية متسارعة، تزامناً مع صعود الأسئلة الكبرى في الحياة والسياسة والثقافة، بدأ ملكون طريقه الصحافي كمراسل لجريدة "الرياضة" الدمشقية. هناك، بين المقالات، وجد لغةً تعبّر عن وجع الإنسان وهشاشته، لا فقط عن نتائج المباريات وتكتيك المدربين. تلك البدايات كانت بمثابة إعلان حاسم: أن الصحافة بالنسبة له ليست مهنةً، بل حياة ثانية.
وحين انتقل إلى عمّان عام 1986، لم يغيّر المكان من جوهر الرؤية. عمّان، المدينة التي تجمع بين القديم المترب والحديث المشوّش، فتحت له نوافذ جديدة ليطلّ منها على العالم. كتب في "صوت الشعب" ومجلة الاتحاد العربي لكرة القدم، وأطلّ عبر أثير الـBBC. لم يكن صحفياً ينقل الأخبار، بل كان كاتباً يُعيد تشكيل الخبر بلغةٍ تشبه الشعر، وبنبرةٍ تلامس ما وراء الأحداث. كانت نصوصه تبدأ حيث تنتهي الأخبار، وتمتدّ لتسائل الإنسان في لحظات انتصاره وانكساره.
عام 1987، صدر كتابه الأول "تاريخ الألعاب الأولمبية". ظاهرياً، قد يُقرأ ككتاب توثيقي، لكن من يقرأه بعمق يدرك أن الأمر يتجاوز التأريخ، إذ كان محاولة لفهم النفس البشرية من خلال توتر العضلات، وارتباك الأعصاب، وصراع الجسد مع حدوده. كانت الرياضة، بالنسبة لملكون، مسرحاً بشرياً هائلاً، فيه يتجلى الصراع الوجودي في أنقى صوره.
لكن في قلب هذا التوثيق، ظلّ الحنين حاضراً. ظلّ طائر "الصقر" رابضاً في قلبه، ينتظر اللحظة التي يعود فيها للتحليق. وفي عام 2000، عاد الطائر من سباته. كتب مقالة بعنوان "شفافية فضفاضة" وأرسلها إلى الصحافي المخضرم سعد الرميحي. جاء الردّ مفاجئاً: صفحة كاملة باسمه، صورته، وكلماته. لم يكن ذلك نشر مقال، بل ولادة جديدة. إحساس أن الكلمة قادرة على إحياء من ظن نفسه منسيّاً.
ثم جاء المنفى. السويد. البلاد الباردة التي لا تعرف ملامح الشرق، والتي لا تكتب الرسائل إلا بالصمت. هناك، في استوكهولم، لم يعد ملكون يكتب من مقهى يعجّ بالرواد، بل من غرفة باردة، نافذتها مضبّبة بالبخار، لكنه ظلّ يكتب وكأنّه لا يزال في حضن القامشلي. لم تكن الغربة عنده منفىً للجسد، بل اختلال في البوصلة العاطفية. ومع ذلك، لم يكن من أولئك الذين يسكنهم الصمت، بل من الذين يحوّلون الذاكرة إلى حبر، والحنين إلى ورق.
لم يكتب ليكون محايداً. لم يؤمن يوماً بتلك الصحافة التي تزعم الموضوعية المطلقة. كان يرى أن كل نص موقف، وكل كتابة انحياز: للإنسان، للحقيقة، للغة. وحتى حين كتب عن الرياضة، لم يكن ذلك تحليلاً بارداً، بل حكايةً عن انتصار الروح، عن انكسار الجسد، عن تفاصيل لا تُرى في اللقطات البطيئة ولا تلتقطها الكاميرات.
وكان واضحاً بالنسبة له، أن الإعلام الرياضي تغيّر. لم يعد فيه نبض الحكاية. بات سباقاً لنقل العاجل، وساحةً لفوضى التحليل السريع. ضاعت النبرة، وغابت القصة. ولم يكن نقده لهذا التحول ترفاً ثقافياً، بل مقاومة. مقاومة ضد ابتذال الحكاية وضد اختزالها. كتب مقاله الأشهر "الدهشة المفقودة" وكأنه ينعي فيه زمناً كاملاً. زمناً كانت فيه الصحافة تمشي على مهل، تستمع، تتأمل، تُنصت للقلب قبل المعلومة.
ومع كل ما مرّ، ظلّ مؤمناً بالورق. في عصر تآكلت فيه الصحف، وذوت المجلات، كان يقول: الورق لا يموت، بل يغيّر موقعه. من المقهى إلى المتحف. من اليد إلى الذاكرة. كان يعلم أن الجيل الجديد يطلب "الملخّص" لا الحكاية، لكنه ظلّ يكتب الحكاية، كمن يكتب نشيداً أخيراً قبل أن يسدل الستار.
ملكون، ذاك الطفل الذي سرق لحظة دهشة من مكتبة "دار اللواء"، لم يكبر يوماً بمعنى الانفصال عن الطفولة. نضوجه كان امتداداً لطفولته. الطفولة عنده لم تكن مرحلة زمنية، بل موقفاً وجدانياً. كان يرى في كل كتابة محاولة لاستعادة براءةٍ سُرقت، وحنينٍ لم يُشفى. كتب للمجلات التي قُتلت بلا ذنب، وللأحلام التي أُجهضت قبل أن تولد، وللمدن التي ما زالت ترسم على الرمل رسائلها.
حتى في لحظات البُعد، كانت فيروز تهمس بين سطوره، كانت نغمة خافتة تصحب كلماته، كأنّ الحنين نفسه صارت له نغمة. كتب عن رئيس الفيفا، عن برشلونة، عن الصحافة، لكنّه كان يرى كل ذلك من خلال مرآة القلب، لا عدسة الكاميرا. لم يكن التحليل غايته، بل الإحساس. لم يكن يبحث عن السبق، بل عن الصدق.
هو من أولئك الذين لا يملكون سوى الكلمة سلاحاً، ولا يحملون في منفاهم سوى الذكرى وخريطة ورقية لمدينة تحوّلت رماداً. لكنه كتب، لا ليحتفي بالنصر، بل ليرفض الهزيمة. كتب لأولئك الذين لم يُذكروا، للمقالات التي لم تُطبع، للقصص التي لم يُكتب لها أن تُروى.
واليوم، ما زال يكتب. لا يساوم على اللغة، لا يهادن في الموقف. يكتب كما لو أن الحبر بقايا روح، وكأن الصحافة آخر معاقل الشغف. في عالم ينسى كل شيء بسرعة، قرّر ملكون أن يتذكّر، أن يكتب كي لا يُمحى. لم يكن مجرّد صحافي، بل شاهد عصر، شاعر في حقل الرياضة، وآخر المؤمنين بأن المجلة قد تكون وطناً، وأن الكلمة إذا كُتبت بصدق، يمكنها أن تؤجل موت العالم قليلاً.
كتب ذات مرة: "أنا لم أكتب لأُشهَر، بل لأتنفّس. لم أركض خلف الأضواء، بل ركضت خلف دهشتي الأولى. وفي زمنٍ اختزل فيه الإعلام الرياضي إلى 'قنوات' و'تحليلات فورية'، اخترت أن أبقى على ضفاف الحبر. كتبت، وسأكتب، لأنني ببساطة لا أستطيع أن أفعل غير ذلك".