في وقت تتطلع فيه الأمم نحو مزيد من الرفاهية، وفيما تحلم الانسانية بالعدالة الاجتماعية ويعمل الشباب متطلعا نحو أفقٍ أكثر وحرية واحتراما لذاته وكرامته، نجد ان المناخات الفكري منها والاقتصادي والاجتماعي تزداد ترديًّا وضبابية، لا سيما في بلادنا "العربية" التي لم تهدأ يوما عبر التاريخ مما دفع بشعوب تلك المنطقة الى الدخول "طواعيًّة" الى المجهول عبر الانتظار في ثلاجة الماضي منتظرين فرجًا "عجائبيا"، مما شكل ضربة قاضية لكل الأحلام التي راودت البعض عقب ما سمي بالربيع العربي الذي لم يزهر.
فإثر مرور اكثر من عقد على "ثورات يناير" نجد ان الأوضاع اكثر تأزمًّا والوعي الانساني أكثرتدهورًا، بدءًا مما آلت اليه الأوضاع تونس من تراجع واضح في الديموقراطية بعد ان كانت تُعد النموذج الاكثر نجاحا، مرورا بليبيا ومصر والعراق وسوريا ومخيمات اللجوء والنكبات، وليس انتهاءًا بلبنان القابع في قعر القعر! وعند تحليل المشهد على المستوى الداخلي كما على صعيد العلاقات الخارجية، نجد أنّ الاتجاهات كلها تصب لمزيد من "تأجيل" الأزمات ودفعها الى "ثلاجة المجهول" في وقت يشهد فيه اقتصاد تلك الدول تدهورا دراماتيكيًّا وعمل الحكومات فيها (ان وُجِدَت) كحقنة مخدر لتسكين بعضًا من الآلام لكارثة محققة.
الأمر الخطر في "سياسة الثلاجة" و "حقن التخدير" تلك، هو انّ الانسان العادي في تلك البلدان أضحت عملية الانتظار جزءًا من مكونات هويَّته الأساسية، بل والأنكى انّه كالمدمن على حقن التخدير يتابع تصريحات المسؤوليين وهو علم اليقيين يعلم انهم "كاذبون"، لذلك فهو لم يعد يواجه الأزمات بل يحتجب عنها بذريعة الانتظار مكتفيا بتفاؤل "الزعماء" ومصفقا لهم، لقد فقدت الشعوب القدرة على مواجهة أزماتها المعيشية ناهيك عن السياسية والاجتماعية والفكرية.
لقد توقف الزمان بالنسبة لهؤلاء في لحظة تاريخية، وكل فشلهم يُعَلّق على شماعة "اعداء" وهميين و"مؤامرة" تُحاك، وزاد في طنبور الحجج نغمًا "الحرب الروسية على أوكرانيا" وتداعيات "جائحة كورنا"، وأصبح وجود "عدو" أمرًا ملازما للتفكير في كلّ الأمور، وأن هناك مؤامرة دائمة مستديمة مستمرة في كلّ الأوقات.
الاشكالية إذن تقع في ان وجود العدو صار جزءًا من الهوية، سواء كان هذا العدو عدوَا متخيّلا أم عدوًّا حقيقيًّا، و"العدو" هو الذي يُحدد الهوية التي يضعها كحاجز وسياج عالٍ بمقابل الآخر، كما أصبح وجوده وسيلة مستأنفة لتأجيل الضرورات الداخلية ومطلبات الشعوب، الأمر الذي جعل الاوضاع الداخلية متعفِّنة، وذريعة دائمة من قبل السلطات، لإعلان حالة طوارئ مستمرة. فالانتظار يُطرح كحلٍ للمشكلات التي لا يرغب المسؤولين في معالجتها ومواجهتها من جهة، كما انه مخدر ممتاز للبشر من جهة اخرى.
فيما سيطرت لغة اللف والدوران على التصريحات الرسمية الخارجية والداخلية والسجالات السياسية الدائرة ضمن أطياف الشعب الواحد، مع الوقوف خلف "الستائر"، وهو الطريقة المثلى لتأجيل الأزمات علاوة على مفعول الوهم الذي يبعثه "الستار" عندما لا يُنظر إليه كحاجز.
وفي إحدى حواراتي مع مجموعة من خبراء اقتصاديين دوليين أجانب منذ قرابة 5 أعوام، وخلال طرحي لعلاقة الاقتصاد بالمجتمعات وضرورة "الاستثمار" في الدول العربية التي تشهد مشاريع عمرانية وحداثية ضخمة سواء الخليجية الغنية منها او النامية، مع ما يمكن ان تحققه من ايرادات رائعة يمكن ان يعود مردودها بالخير على الشعوب لا سيما مع استتباب الامن مما يؤدي الى رفاهية، نظر إليّ خبير بعمق وقال: "الاستثمار الآمن ومؤشر الحرية والديموقراطية متلازمان، لا يمكن ان يعود الاستثمار بالخير او الربح المضمون إن كانت القوانيين الاقتصادية المرعيّة الاجراء والقرارات خاضعة "للزعيم الفرد" وان مرورها بالبرلمات شكلي ليس إلا، لذلك فهو استثمار غير آمن وان كان يبدو مغريًا ووفيرا فهو كالقمار، فبعض المستثمرين فقدوا استثماراتهم او جمدت لمجرد ازمة سياسية طفيفة بين بلدين عربيين جارين، فيما خسر البعض ممتلكاتهم واصولهم لتغيير قانون الاستملاكات بين ليلة وضحاها دون اي اعتراض من نواب البرلمات التي تمرر القانون دون مناقشة او اطلاع!"
إذن هذا عن انعكاس تراجع الحرية على الاقتصاد فكيف على الفكر، وما هي مآلات تلك الشعوب البائسة والمقهورة القابعة بين غافل ومغفل، وهل من طريقة لتحسين الوضع دون الانجرار الى الخراب؟ ربما اولى الخطوات تكون بتحفيز الوعي عبر الكلمة الحرة واطلاق فكر مستنير بحيث يرتبط فيه مفهوم الذاكرة ايضا بالحاضر والمستقبل وهو ما لفت له المفكر مارتن هايدغر عندما اشار الى الذاكرة الحاضرة وضرورة ارتباطها: "بكلّ ما سيأتي" كونه " يلتقي في وحدة الحضرة التي تتخذ كلّ مرةٍ طابعًا خاصًّا".
نعم، الذاكرة السياسية وحتى الحضارية بطبيعة الحال لا بد وان ترتبط بالحاضر الممتد الى المستقبل بحيث تكون حريّة الكائن الإنساني مطلبًا وجوديًّا أساسيًّا، عندها سيكف الفرد عن اتهام "الاعداء" ويخرج من ثلاجة الانتظار الى دائرة العمل والتغيير البنّاء وسيتحلى بالجرأة في الانفتاح على كل الشعوب والتفاوض معها في المصالح الاقتصادية من باب الندية لا عن طريق التسول والشحاذة الديبلوماسية. وهو أمر يفتح أفق طرح جديد لإرادة المعرفة القائمة على فك الارتباط بنمط واحد من انماط الزمان وهو نمط الماضي وشكل واحد من اشكال الواقع شكل القبول بالظلم، وسيؤدي الى تفكيك المرجعيات الفكرية المؤسسة للديكتاتوريات، وربما من اولى الأوليات افساح المجال للأجيال ان تتنفس عبر مناهج تربوية تؤسس لكائن حرّ قادر على التحليل والاعتراض دون ان يخشى العقاب، وتؤسس لهويّة بعيدة عن الطاعة والخشبية والثبات والانعزال المنغلق، وتساهم في دفع الإنسان نحو الابداع الامر الذي يحقق تقدم فعلي في مسيرة الأمم ويؤدي الى نماء حقيقي للأوطان.