لا أحد ينكر بأن معظم الشعوب العالم لها معتقداتها ومزاراتها الدينية وطقوسها المختلفة؛ مزارات بعضها حقيقي، والأخر مزيف، وطقوس دينية مقبولة ضمن منطق العقل، والأخرى متطرفة تَخفي وراءها صنّاع مهرّة للنصب والارتزاق والتجهيل. فقد تجد أمة تمارسها من باب الروحانيات هرباً من ضيق الحياة وأحزانها، بينما الأخرى تمارسها بعقل مغلق، وجاهلية متراكمة بتربية المذهب والدين المسيس.
هناك شعوب تتأنق بالتجول في عالم الأفكار والمعتقدات، دون أن تحدث خسائر مجتمعية، وشعوب تغرق بالدم وتشويه الأجساد والتوسل والاستغاثة، فتحول البلد إلى جهنم من العزاء والأحزان والنكبات واليأس من الحياة.
والشعوب التي تَحن إلى المزارات والمعتقدات يتأصل فيها الدين بأشكال مختلفة؛ عبادات وطقوس. وبمنطق علم الاجتماع فأن الدين ليس معلومات نكتسبها أو طقوساً مسرحية نؤديها، بل هي حياة نحبها ونعيشها، فالقيم ومنها الدينية "هي مكتسبة مع وجود نوازع ذاتية بايولوجية عند الإنسان تدفع به لتقبل أو رفض تلك القيم بحسب شدة النازع“. والأهم هو المظهر الاجتماعي والثقافي، وكيفية ترجمة المعتقدات إلى معاني تاريخية، وسلطة دنيوية، وبالتالي فأن الدين هو عبارة عن نسق من المعلومات المكتسبة في أسلوب حياتها وعيشها والارتباط بها.
والمزارات المزورات، والمزعومة أنها للأولياء والصالحين، لها قصة طويلة؛ فالحسين له ضريح في القاهرة، وهناك آخر في سفح "جبل الجوشن" غرب حلب ينسب إلى رأس الحسين أيضا، ويقال أيضاً بأن رأس الحسين في دمشق والحنانة بين النجف والكوفة، وكذلك في المدينة قرب قبر أمه فاطمة. كما أختلف العديد من المحققين بمكان زينب بعضهم يقول في المدينة بمنطقة البقيع، والآخر في القاهرة، وهناك من يؤكد بأن قبرها في دمشق. والقصص لا تنتهي، والأقاويل كثيرة ومتباينة فيها الكثير من المفارقات والإشاعات والتضليل الطائفي.
ولأن العراق صار خارج تغطية الزمن، حيث العيش في الماضي وأحزانه ونكباته وسيوفه الصدئة، فأنه دخل إلى عالم الخرافات والأوهام، حيث أعوام الوطن تغرق بظلام الأحزان ومواكب العزاء والدم، ونبش القبور بحثاً عن أموات التاريخ، أو بناء المزارات المزورة بالمئات بدلا من إنشاء البيوت للفقراء، ومصانع لتشغيل الآلاف الشباب العاطل، وتنمية المزارع وحدائق الورد، وملاعب الأطفال، ودور العلم والثقافة والفنون.
بلد أغرقه المتدين المسيس بالخزعبلات والشعوذة والسفسطة لأهداف عديدة، بعضها مادي، وآخر بالقصد والعمد تكريساً للجهل، وغلق منافذ العقل والمنطق، فأسس لنا مزارات مقدسة مزورة، وأئمة جدّد صارت أكثر من المعصوم وجاهة، وأكثر من المعصوم زيارة، وصار العراقي مصاب بجدري التدين الشعاري؛ مهووساً بالشعائر والأحزان والشكوى والنحيب، ومصاباً بفقر الإرادة والتغيير.
ومن عجائب العراق الأصلي بنسبه وعلمه وحضارته قيامه في آخر أيامه بتصدير علامة التزوير؛ تزوير الشهادات بأنواعها، والسلع بأصنافها، والهُبل السياسي، والدين المطعم بالغيبيات، والمزارات المزورة، حيث أئمة جدّد تحمل شهادات الميلاد والوفاة وحسن السيرة ومؤهل الكرامات صادرة بختم مفاقس الفتاوى ومكاتب الأحزاب.
صارت المزارات الوهمية علامة بارزة لكثرة عددها في عراق الأحزاب الدينية، فتحولت إلى دكاكين للارتزاق والفساد، فازدادت حضوراً وتأثيراً، وامتلأت خزائنها بالنقود والأضاحي والذهب، وتوسعت معها الجاهلية المجتمعية، وتضخم "قطيع" البشر الخانع بالأوهام، والمريض بهلوسة الشعائر، والرضى بالواقع المر، حيت صار مهووساً بالقائد السياسي الجاهل وعنترياته وتحريضاته وتغريداته وأمزجته المتقلبة.
هذه المزارات الوهمية التي تعاظمت بعد عام 2003، قال البعض عنها من رجال الدين العقلاء بأنها ليست لها "أصلا ولا فصلاً، ولا حسباً ولا نسباً"، مؤكدة بأنها "غير حقيقية وغير موجودة" مثل مزارات بنات الحسن بن علي، على سبيل المثال لا الحصر، لأنهم دفنوا في المدينة وليس في ارض العراق. ومع ذلك تصر بعض الجهات على أحياءها وترميمها بهدف إنعاش طقوس الموت والحزن في النفوس، وتضليل العباد.
صرنا نرى جماهير جديدة تزحف إلى مزارات مبتكرة؛ عمود كهربائي وجسر وعربة قديمة وبيت مهجور، وحيوان أجرب، وكلها مطرزة ومُحزّمة بقطع خضراء للتبرك وتحقيق الأمنيات، وتلبية المطالب بالنذور. معنا تعيش "خرق خضراء" تطرز البيوت والبشر والجسور والحارات وكأنها صديقة لنا ومن مصادر البيئة المستدامة!
كنا نظنها بركة تجلب لنا الرفاه والخير، فاكتشفنا بانها محملة بالشر والكوارث؛ زادتنا فُقرنا ومرضاً وجوعاً وأوجاعاً، وحولتنا إلى عبيداً للسلطة الناقمة على وجودنا وأحلامنا ومستقبلنا.
عندما تتجول في العراق ستجد مئات المزارات الوهمية والمزيفة؛ ستجد خضروات بنت الكاظم، ومقام الشيخ كوكو، ومرقد كمون، ومربط فرس الأمام الحمزة، وفرزين بن الكاظم، والعلوية فخرية بنت الحسن، وعالية وسميجة ولطيفة بنات الحسن، وحبش بن الكاظم، ومزار "قطارة الإمام علي" الذي أنهار قبل أشهر على الزائرين، فقتل العشرات منهم تحت ركام صخوره المتحركة. وكل هذه المزارات تقف وراءها جهات فاسدة للتربح في ظل دجل ديني، ونصب واحتيال.
بالله عليكم هل يحتاج العراق بعد كل الكوارث والفواجع التي جلبتها "الديمقراطية الجديدة"، وأحزاب اللصوص الجائعة إلى مزارات وهمية تُشيع الظلمة في العقل، وتنشر وحشة اليأس في النفوس، وتبتكر مواويل النحيب والعويل والنَّدب، وتجلب الأموات من التاريخ لطلاء بيوتنا بحزن الحروب الجاهلية وقيمها الدموية. وتجهيل المجتمع بخرابيش السيد والشيخ.
هل يحتاج مواطن الوجع، وجعاً عراقياً مضاف اليه، ومجروراً بتفاهات الوهم، وقد انتهت صلاحيته الحياتية منذ زمن طويل بالمفعول به؟
أبَشّركم الحدوتة بعدها ما ابتدأت!
[email protected]