عندما كنا نقرأ ألف ليلة وليلة في أيام رتابة الحياة، وبطيء عقارب الساعة، اكتشفنا الكثير من الأسرار والغاز الحكايات المتشابكة؛ حكاية الملك شهريار وأخيه الملك شاه زمان وحكاية الحمار، والثور مع صاحب الزرع، والتاجر والصياد مع العفريت، وقصص أخرى تعدت الألف التي كانت ترويها بذكاء شهرزاد لزوجها الملك شهريار. كانت القصص تحمل الكثير من حكمة المعنى وبراعة التشويق وجمالية الصراع. ملخصها استخدام الذكاء للوصول إلى الهدف، وكسب العقول بمنطق العلاقات والمناورة الشريفة. والأهم امتلاك رؤية درامية حياتية واقعية ومشوقة للوصول إلى القلوب.
اليوم تَضُج مواقع التواصل الاجتماعي بآلاف قصص ليلة وليلة ليست فيها معنى تأسر فؤاد الزمن المتقلب بالمزاج، ولا حكمة تبشر بالأمل المفقود. متواليات من القصص النرجسية التي يصر أصحابها على تلوين حياتهم بخداع النفس ونفاق الآخر، وجدار افتراضي يزدحم بخزعبلات وترهات النفس الأمارة بالسوء، والعاشقة لدردشات المقاهي والحارات الخلفية. ولو كانت معنا شهرزاد لقالت على ما يكتبه البعض ما لم يقله مالك في الخمر.
ما يجري على جدران النشر الافتراضي كارثة حياتية في نشر غسيل الحياة السرية، ترهات من الموضوعات الشخصية والعائلية؛ صرنا ننقل على الهواء مباشرة ما يحدث في بيوتنا تفاصيل غير صالحة للنشر، بل نتباهى بأن البيوت أسرار... إلا على الفيسبوك. صرنا نعرف حركة العائلة بالحروف والصور مواعيد سفرها وأماكن تواجدها ومطاعمها وسهراتها وملابسها واكسسوراتها بل حتى أسرار غرف النوم، حيث الخصوصية صارت في خبر كان؛ فتهدمت البيوت والعلاقات، فصار الفيسبوك فضفضة متاحة للجميع وفيها الاستشارات مجانية والجميع خبراء.
صرنا اليوم نستيقظ على الأموات من كل نوع وجنس وصار لدينا واجب العزاء عن بعد بالرحمة للميت والصبر لأهله. ياريت أن يكون الموت مقتصرا على القريب الأول بل أصبح علينا واجب العزاء على جميع الأقارب من الدرجة العاشرة؛ مات جدة جدتي، وعم عمتي، وخال خالتي، وقريب قريبي. فصرت صراحة خبيرا في نوع الأقارب وأجناسهم البشرية، بل صار يومي كئيبا بالأموات، وصرت أشبه بحفار القبور الذي ينتظر المرحوم بلهفة للحصول على المال الوفير، بينما أحصل أنا على الاجر والثواب غير المضمون!
وعندما تتجول في حارات وشوارع الفيسبوك فأنك ترى كل شيء؛ الجرحى وجثث الموتى والمرضى المهووسون بحب الذات، والساديون الذين يتلذذون بعذاب الآخر. نرى بشاعة البشر، مثلما نرى بشاعة الحوادث. بشر تنهش بلحم الآخر بطريقة لا تخطر على بال. بينما تحولت الإنسانية إلى الحيوان؛ نرى القط يلعب مع الفأر، والكلب مع الطير في آخر هذا الزمن العجيب.
مثلما نرى مشاهد مرعبة لصور مقززة يطلب أصحابها الدعاء بالشفاء لناس فقدوا أيديهم أو أرجلهم، أو كانوا ضحايا أحداث مأساوية. كنا نشاهد سينما مرعبة تثير الفزع والاشمئزاز الإنساني. بالمقابل هناك صور لنساء فقدن جمالهن الطبيعي بفعل البوتكس أو الفيلر، فلم نعد مع الأسف نرى نساء مختلفات بل "بطات" متشابهات يسبحنَّ في فضاء الحياة. وهناك رجال مرضى بحب الذات يخترعون فلطازجات حياتية من خلال نشر صورهم منذ ولادتهم القيصرية مرورا بشبابهم إلى مرحلة الجلوس مع المسؤول الغبي، أو التفاخر بحصوله على شهادة تقدير من مؤسسة تقدر الحمير وتعادي المفكر.
نقرأ يوميا على جدران الفيسبوك حروف للمباهاة الفارغة؛ أحدهم صار بطلا قوميا وهو يعيش في كروبات الخفافيش متخفياً لا تسمع له رأياً جَهاراً، ولا تشم منه رائحة عنترة. وآخر يتحدث لك عن المنجزات الشخصية، أو السياسية أو العلمية أو الثقافية، ولكنك لا تجد في عقله فاعل مبني للمعلوم، ولا اسماً ظاهراً بل هو ضميراً مستتراً بدون أفعال. تجد فضائح كثيرة للأفراد مفتوحة على الملأ، وقتال شرس بين الأحزاب، وربما بين أعضاء الحزب الواحد للحصول على اللقب السياسي الافتراضي، وكرسي الوجاهة اللعين.
هناك قصة حقيقية من شارع الفيسبوك، ليست الا واحدة من الآلاف القصص الغريبة التي تحمل دعابة لا تجدها حتى في كتب الجاحظ. فقد كنت منزعجاً من صديق لا تخلو منشوراته من قصص حياتية يومية تصل حد الإزعاج والنفرزة، كان يستيقظ صباحا فتقرأ له فاتحة النهار الجميلة "صباح الياسمين" لكنه لا ينسى التذكير بفطور اليوم؛ قيمر معسل بعسل الجبل، وبعد ساعات تقرأ له منشورا أخر يخبرنا انه ذاهب لجلب طرشي الشفاء الموصلي المعروف، وعندما يعود إلى البيت أشاهد منشور جديد له يتضمن صور الأكلات والسلطات، ومعه امنيه طائيّة أن نشاركه الطعام، وبعد ساعتين يستأذنا بنوم قيلولة الظهر، ثم يذكرنا بعد ذلك بشاي العصر وكعك السيد، وينتهي به المطاف إلى تذكيرنا بفوائد نوم الليل المبكر. وفي كل يوم كنت اشعر بقرف شديد في قراءة منشوراته ومتابعتها إجباريا لأنه كان يراقب اللايكات اليومية التي أضعها له، ويشكرني عليها.
وفي احدى الصباحات قرأت خبرا صادما من ابنه: انتقل والدي إلى الباري عز وجل، وقد ترك وصيته أن تعاد جميع منشوراته التي كتبها، مع توصية إلى أصدقاءه وزملاءه: استودعكم بالله إن لا تنسوني بالتعليق واللايك في قراءة منشوراتي التي كتبتها في حياة الدنيا، فهي أمانة أضعها في رقابكم عندما نلتقي في الدنيا الآخرة.
لكن أحدهم كتب رداً للأبن يمزج بين الدعابة والخبث: سلامي للأب الغالي. لا نستطيع الاستمرار في وضع اللايك إلا بعد معرفتنا أذا كان المرحوم يكتب منشوراته من وسط غابات النخيل والعنب وأنهار اللبن والعسل والخمور والحوريات أم انه يعيش مثلنا في جحيم نار العراق!