كم من العصور مرّت على الانسان وما زال ثالوث الخراب المتمثل في الفقر والجهل والمرض الذي يؤرق البشرية سائدا بشكلٍ مفزع وخطير؛ اذ لم تجد العقول الحكيمة الساعية الى التخفيف من مآزق الانسان حلولا جذرية ناجعة للقضاء بشكل تام عليه أو على الاقلّ التخفيف من سوءاته، وكل النظريات كانت عبارة عن رتوق لتغطية هذه الخروق الثلاثة التي سرعان ما تهلهلت مجددا وعادت تمزق الإنسان وتعيث به تدميرا وخرابا حيث لا عدل راسخٌ في توزيع الثروات للقضاء على الفاقة والعوز ولا علم ينتفع به بقي عاما شاملا مشاعا بلا ثمن ليكون دواء ناجعا شافيا وسيفا مسلطا على الجهل.
كل ذلك يعود اساسا الى تفشي الجهل والأمية والغباء والبلادة والعته بين ظهرانينا لأننا لم نحسن انتقاء ما صلحَ من العلم وما نفعَ من العقل، ذهبنا الى السلف لننهل من معينهم سواء كان راكدا راسبا أم جارياً فيّاضاً دون فرز الأجدى والأنفع، وغفلنا ان ضحْلَ مائهم لم يعد يروي غليلا فقد أسن وتغيرت رائحته وتلوّث بفعل تقادم الزمن وركد في العقل، وما أدراك ما يفعله الماء الراكد من السقم والأذى بسبب تكاثر بيكتيريا الخراب في قعره وسطحه معا.
عزفنا عن ينابيع وصفاء مياه مفكرينا أنقياء العقل وأمسكنا بتلابيب وعباءات السلف وصرنا أتباعا وذيولاً لعقم أذهانهم وترددنا بحذرٍ شديد من الاستعانة بعقول الأمم والشعوب الراقية والاستفادة من خيراتها وخبراتها الذهنية بسبب رواسب النرجسية الكامنة في أعماقنا.
فليس كل مانقرأه من كتب وأسفار ومجلدّات الأولين هو سلاحٌ ماضٍ ضد الجهل لا بل تكون بعضها ترسيخا له.
القراءة المنتخبة المنتقاة هي العقار الفعّال الذي يطيح بالغباء ويستفزّ العقل ويُظهر لمعانه بعد ان يزيل صدأ ما تراكم في اذهاننا من عالق سيء.
القراءة غير المنتخبة واعتماد المناهج الرثّة التي عفا عليها الزمن وضعفت جدارتها لا تعدو كونها سيفا خشبيّا لا يقتل عدوا، انها استعمار للعقل واحتلال بغيض للذهن وقيود للأيدي والعضل الذي يريد ان يبني ويعمّر لكنه لا يقدر لشللٍ في الفكر وارتجافٍ في الساعد.
من يفتح كتابا ثريّا في علومه كمن يفتح نافذةً في مكان خانق او ثغرة في حائط سجن مقفل، والقراءة السليمة سَفَـرٌ في ازمنة وأمكنة بعيدة وتوغلّ مدروس في ارواح البشر الراحلين والماكثين معنا.
القراءة السليمة رحلة مع المعرفة وسياحة للعقل ولقاء بينك وبين العباقرة والعظماء والأدباء والعلماء وحينما تحوز كتابا ثريّا كأنك تقطع تذكرة بطائرة لتكتشف شيئا لم تره قبلا وكثيرا ما تتوقف في محطات العقل الانساني لتهنأ وتستريح بضع ساعات لتتزود بالوقود الفكري وتواصل سفرك الى هدفك.
القراءة المنتخبة انتقاء السلاح العصري الفعّال الضامن لتحقيق النصر مهما كان عدوك قويا، هو الجرأة والإقدام في مواجهة الخوف وحب الحياة وتجميلها بما يضفي عليها العقل والعضل من سمات تسرّ الانظار وأصوات كالموسيقى العذبة لتؤنس الاسماع وتسعد العيون بكلماتها وهي تقرض الجهل وتبيد خرقه البالية وتحيلها مزقا مزقا لترمى اخيرا في حاوية مزابل الفكر الضار غير السوي.
فهل اصدق من كلام قدوتنا علي بن ابي طالب / كرّم الله وجهه حينما وصف أشجع الناس قوةً ومنعة انه "منْ غلبَ الجهلَ بالعلم"، ولا يتأتى العلم وتوقّد الذهن وقوة الحجّة وصلابة الرأي وصواب الفكر ورجحان العقول الاّ بالقراءة المنتقاة فهي وقودها الذي لا ينضب سبيلا الى الارتقاء فاقرأوا كي ترتقوا وقبل هذا وذاك؛ انتخبوا ما تقرؤون؛ لا يهمّ إن كان الكتاب ورقيا أم إلكترونيا في زماننا العولميّ هذا؛ فإن في القراءة السليمة نضجا للعقل وعزماً في الساعد وفتحا مبينا لتقدّم الحاضر والمستقبل معا.
أقرأوا ايها الساهون الغافلون عن القراءة وأوسعوا آفاق فكركم بالقراءة المنتقاة الراجحة ولا تنسوا الكتاب الصديق الصامت وكفانا عزوفا وبعدا عن خير الجليس والرفيق الأنيس.