: آخر تحديث

همومٌ أندلسيةٌ سعيدةٌ (حكايةٌ من صميم الواقع)

94
88
89
مواضيع ذات صلة

هذه بقايا أثَرٍ مُسْتَقاةٌ من مُروري بزمنٍ أندلسيٍّ باغَتَني فيه المرضُ، وكاد بِسَطْوَتِه الماحقة أن يُودي بحياتي. وهي، أيضاً، أَشْتاتُ وقتٍ لَطالَما أوْجَبْتُ بها على نفسي، وأنا طريح الفراش في المستشفى، السّيرَ نحو العافية بعُكّاز الكتابة (الذي هو عكّازٌ من قُطنٍ)؛ أهشّ به على قطيع أفكاري وأقوده إلى مراعي الأمل والحُلم بالعودة إلى ماضي بدني الخالي من الإعاقة والسّقَم.
وسأفتح هُنا قوساً، قبل المواصلة، لأقول بأنّ محنتي المَرَضِية هذه، وتِلْكُم التي سبقَتْها – وكانت أكثر ضراوةً – في أواخر السّبعينات من القرن الماضي حينما كنتُ طالباً جامعياً في الدّيار الفرنسية وأنا ما زلت في سنّ الثّالثة والعشرين من عمري، علّماني أنّ كلّ مرضٍ قاهرٍ هو، في الواقع، هزيمةٌ كبرى للصّحّة أمام الحياة، لكنّ هذه الهزيمة سرعان ما تتحوّل، بالصّبر والتّفاؤل والدُّرْبة على المقاومة والرّغبة الحقيقية في العيش، إلى انتصارٍ ساحقٍ يُقوّي الرّوح ويُجَدِّد العمر ويُبْعِد عنّا تماماً شبح الموت.
وهنا أُقْفِلُ القوسَ، لمواصلة القول بأنّ ما أتوخّاه من خلال ما سَيَلي من بَوحٍ هو استقراء ذلك الزّمن الأندلسي "المريض"، الذي أوقعني في فِخاخه على حين غرّةٍ بينما كنت أقضي في مدينة مالقة أيّاماً سعيدةً، ما بين القراءة والكتابة والرّسم والعيش الهنيء مع صديقةٍ عزيزةٍ – رِيبِيكا – جمعتني بها الصّدفة ذات يومٍ في إحدى المكتبات العامّة؛ كنت أبحث فيها عن مَراجع أستعين بها لكتابة روايتي "يوميات أندلسية"، فأثار انتباهي كتابُ "التّاريخ غير المسبوق لإسبانيا" (لمؤلِّفه پِيدْرو ڨُولْتِيسْ)، الذي كان بحوزتها.
انحصر حديثي معها يومذاك في الأدب، ولم تكن لديّ أيّة نيةٍ في ربط علاقةٍ مَّا معها؛ نظراً – بالخصوص – لوضعيتي العائلية، ثمّ نظراً كذلك لِما بيننا من فارِقٍ في السّنّ يفوق عشرين سنة.
لكنّ هذه الأندلسية الجميلة، ولأسبابٍ سأكتشفها لاحقاً، صارت تتقرّب منّي أكثر فأكثر، وصارت تُبدي كلّ يومٍ اهتماماً أكبر بمشروعي الرّوائي، فتطوّرَتْ علاقتنا بالتّدريج، وانتقلَتْ من المكتبة إلى المقهى إلى المطعم إلى متاحف مالقة وقصبَتها الرّومانية، ثمّ إلى بعض المدن الأندلسية القريبة مثل: غرناطة وقرطبة وروندا وطُورِّيمُولِينُوسْ وبِينالْمادِينا؛ كُنّا نذهب إليها في الصّباح الباكر من كلّ سَبْتٍ، نتفسّح فيها ونأكل ونشرب ونزور مآثرها التّاريخية، ثمّ نعود منها مساءً مُثقلَيْن برغبةٍ مكتومةٍ تُغْرينا، كلّ مرّةٍ، بالدّخول في علاقةٍ حميمةٍ، نبقى في حدود التفكير – غير المُجْدي – فيها، فينتهي الأمر بكلّ واحدٍ منّا إلى سريره.
كنت أشعر طوال هذه اللقاءات والسّفريّات مع رِيبِيكا، بأنّني أتنقّل فوق رمالٍ متحرّكةٍ، قد تأتي على ما جمعني بزوجتي من محبّةٍ عميقةٍ دامت أربعين سنة، فكان من الضّروري أن أُفْهِم هذه الصّديقة بأنّني مُتَزوّجٌ، وبأنّ زوجتي غائبةٌ لأنّ مآرب طارئةً اضطرّتها إلى البقاء في المغرب بعض الوقت: «اِطْمَئِنْ! سوف أخرج من حياتك بمُجَرّد ما تعود إليك»، كانت تقول ردّاً على أعذاري، وتترجّاني أن تبقى العلاقة قائمة بيننا إلى حين رجوع زوجتي؛ لأنّني تحوّلتُ بالنسبة لها – حسب قولها – إلى بلسمٍ للأسى الذي يَسْكُنها منذ فشلها في تجربةٍ عاطفيةٍ مريرةٍ، خرجَتْ منها مَدْحُورةً قبْل بضعة أسابيع. 
وفي الواقع، حتّى بالنّسبة لي كانت هذه العلاقة مع رِيبِيكا طوق نجاةٍ ألقى به القدَر في طريقي، لكي يُنقذني – ذات عشيّةٍ – من كارثةٍ صحّيةٍ حقيقيةٍ لم تكن في الحُسبان: كنّا راكبَيْن سيّارتي، هي وأنا، وكنّا قاصدَيْن مدينة بِينالْمادِينا للتّفسّح، وإذا بألمٍ فظيعٍ يستقرّ فجأةً أسفل صدري، فاضطررتُ معه إلى رَكْن السّيّارة بسرعةٍ فائقةٍ أفزعَتْ رفيقتي التي تساءلت بهلعٍ: «ماذا حدث؟» – «أشعر بألمٍ لا يُطاق في بطني!» – «يجب أن نذهب إلى مستشفى اكْزانِيتْ، إنّه قريبٌ من هنا!» – «لا قُدْرة لي على السّياقة، لقد خارت قواي تماماً، أفضّل أن تأخذي أنت المِقْود» – «طيّب، لنتبادل مكانَيْنا!» – «لا قُدْرة لي على الحركة، ساعديني!»، قلتُ لها هذا الكلام، وأنا أتقطّع من الألم وأصرخ، وهي تنظر إليّ بوجهٍ مرعوبٍ وتُكرّر بصوتٍ خائفٍ: «يا إلهي! يا إلهي...».
كانت هذه آخر كلماتٍ سمعْتُها منها، ثمّ فقدتُ الوعي تماماً. 
ما حدث بعد ذلك، سوف تحكيه لي رِيبِيكا بتفاصيل لا يتّسع لها المقام. ولعلّ المُهمّ فيها هو أنّ الألم الفظيع الذي انتابني في السيّارة لم يكن بسبب مرضٍ في المَعِدَة، كما كنت أتصوّر، وإنّما كان سببه القلب، الذي لحُسن حظّي لم يتوقّف – بِضْع ثوانٍ – إلاّ عندما كنت في قسم المستعجلات بالمستشفى، فتمّ استرجاع نبضه بسرعةٍ فائقةٍ عن طريق الصّدمات الكهربائية والحُقَن. 
وعندما استفقتُ من غيبوبتي خاطبني الطّبيب المُعالِج باسماً: «أنت إنسانٌ محظوظٌ، لقد كنتَ قاب قوسين أو أدنى من الموت» – «الحمد لله»، قلتُ له، وسألتُه عن سبب أزمتي القلبية، فأجاب بأنّها لم تكن ناتجةً عن خللٍ عضويٍّ في القلب، وإنّما نتجت عن عدّة أسباب تراكمت مع الوقت وكادت أن تؤدّي إلى هلاكي (لولا رِيبِيكا التي أنقذتني)؛ ومن أهمّ تلك الأسباب التّعب المْفْرط والضّغط العصبي والنفسي. 
وطوال مقامي في هذا المستشفى، عشت نظاماً صارماً في التّغذية والعلاج والمتابعة الصّحّية؛ وكنت أُراقَب يومياً عدّة مرّات: بشأن القلب، ونسبة الأوكسيجين في الدّم، ونسبة اتْرُوپُونِينا "ت" (وهي من المؤشّرات التي تدلّ على وجود أزمة قلبية ولو صامتة)، علاوة على فحوصات وتحاليل أخرى لا أتذكّر اسمها.
ومن فرط انخفاض الحراريات السّكّرية في الطّعام الذي كنت أتناوله وقتئذٍ، حصل ذات ليلةٍ أن دخلَتْ عليّ الممرّضة في الخامسة صباحاً وأخرجتني من النّوم سائلةً بقلقٍ إن كنتُ على ما يُرام، فأجبتها مُنْدهشاً بأنّني بخير، وهممتُ بالنّزول من السّرير للتّبوّل، لكنّها منعتني منعاً باتّاً، وقالت بصوتٍ آمرٍ: «لا! لا تتحرّك، أرجوك! يجب أن تشرب هذا العصير الآن لكي يترفع عندك مستوى السّكّر في الدّم!» – «لديّ رغبة مُلحّة في التّبوّل، يا آنسة!» – «ولو! لا تتحرّك! سوف أُحْضِر لك ما يلزم لقضاء حاجتك في السّرير». 
لم يبق في وسعي إلاّ أن أستجيب لطلبها، فشربتُ العصير بنفَسٍ واحدٍ، دون أن أتحرّك من مكاني، بينما انصرفَتْ هي لإحضار أنبوب التّبوّل. وعندما عادت، وناولتني إياه، وقضيتُ حاجتي، وانتظرَتْ مرور رُبع ساعةٍ من الزّمن (حكَت لي خلالها عن بعض همومها الحياتية والعائلية)، أخذَتْ عيّنةً من دمي وراقبت مستوى السّكر فيه، ثمّ قالت: «الحمد لله، لقد خرجتَ من منطقة الخطر» – «عن أيّ خطر تتحدّثين، يا آنسة؟» – «تحاليل الأمس، التي تسلّمتُها قبل قليلٍ، كشفت عن انخفاض مستوى السّكر في دمك بشكلٍ خطيرٍ جدّاً، وكان في الإمكان أن تفقد الوعي في أيّ وقت، وربّما تفارق الحياة لا قدّر الله». ولمّا سألتُها عن السّبب، قالت إنّها الحِمْية التي فُرضت عليّ بسبب الأزمة القلبية، وهناك أيضاً بعض الأدوية تساهم في خفض نسبة السّكّر في الدّم.
وهكذا قضيتُ في هذا المستشفى ثلاثة أسابيع، كانت تزورني خلالها رِيبِيكا باستمرارٍ، وغالباً ما كانت تقضي الليلة معي في الغرفة، ونبقى في الحديث حتّى الواحدة صباحاً. وبالنّهار كنتُ أتبادل الزّيارة مع مريضٍ في نفس الجناح، سمعتُهُ يتحدّث بالرّيفية فربطْتُ معه العلاقة. وبعد أخذٍ وردٍّ في الكلام، اكتشفتُ أنّه يعرفني حقّ المعرفة، رغم أنّني لم أسمع عنه قطّ. وكنّا نتحدّث كثيراً عن الرّيف ومشاكله المُزْمِنة، وعن شؤون البلد عامّةً. وفاجأني في اليوم الأخير الذي كان سيغادر فيه المستشفى، بنَمِيمةٍ مُضْحكةٍ لشاعرٍ لا صلة لي به على الإطلاق (ج. أ.)، ومع ذلك قال فيّ من الكلام الوضيع ما يُثير السّخرية. وعندما ناقشتُه مع أصدقاء، وقفتُ على الدّوافع الكامنة وراء تصرُّف شاعرنا الرّيفي هذا، الذي تحوّل إلى بوقٍ مُسَخَّرٍ – تَزَلُّفاً ورِياءً – من طرف أعْدِقاء قُدامى.
وبعد بضعة أيّامٍ، جاء دوري أنا، وغادرتُ المستشفى بسعادةٍ لا توصف؛ إذ عبَرتُ – بمُعجزةٍ كبرى – من الموت إلى الحياة، ومن المرض القاتل إلى العافية الكاملة. واكتملَت الفرحة بعَوْدة الزّوجة من المغرب (التي لم تكن على علمٍ بكلّ هذا)، ثمّ بعَوْدة مُنْقِذَتي رِيبِيكا إلى حبيبها (عملاً بنصيحتي)، فنُسِجَت علاقة صداقةٍ متينةٍ بيننا جميعاً، حَجَزْتُ لها مكاناً رفيعاً في الذّاكرة، ريثما يحين الوقت للدّخول بها إلى عوالم الرّواية ومهارتها الذّكية في اقتحام المخفي.
سأترك ورائي، إذاً، ذلك الحيّز اللاّمرئي من المشهد، الذي لن يَقْدر على ترويض المسالك المؤدّية إليه سوى أقوياء الخيال القادرين على كتابة همومهم السّعيدة بمداد الأيّام.  

كاتب روائي من المغرب
مالقة


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في