تهزمني الكلمة الطيبة، فتفقدني القدرة على تجاوزها، وهل أقوى سلاحا منها في زمان التأجيج والتنادي للنزال ؟!
كم من عاشق كسب قلب معشوقته برقيق البوح وجماله، وكم من شاعر ذاع صيته بحلو النظم وجمال المفردة !
هذا إرث إنساني، والناس فيه سواء، لكن ميراثه يبقى أشد مضاء في شعوبنا الشرقية، فاحتفاؤنا بالكلمة العاطفية يفوق، في زعمي، احتفاء الآخرين بها، وحرائق الكلمة اللاهبة يفوق لظاها ما تشعله لدى الشعوب الأخرى .
كلما أمعنا النظر فيما حولنا استجلينا أثر الكلمة فيما نعيش .. وكلما تبصرنا في تاريخ البشر عرفنا أن واقع اليوم نتاج أحداث صنعتها الكلمة بالأمس .
جميع المصلحين والأنبياء والرسل كسبوا معاركهم بالكلمة الطيبة، وكل الطواغيت وأهل الديكتاتوريات خسروا حروبهم بعباراتهم المسمومة .
تصوروا زعيما مهزوما مهيض الجناح، مفجوعا بقواه الخائرة، ومعصورا بخسارات كارثية في جيشه وأرضه وروحه المعنوية .. هو جمال عبدالناصر .. تصوروا أنه يخرج لشعبه الذي لم يكن يصدق ما يجري ويغلي مما آلت إليه الأحوال، فيفاجأ بخطاب شفاف وإنساني لم يكن أحد ليتصوره، يعلن فيه أن مصر قد خسرت معركتها مع إسرائيل في 1967، ويقر بتحمله الكامل لمسؤولية الهزيمة، ويتخلى عن موقعه كرئيس للجمهورية ثمنا لما جرى من فجيعة .
لا مجال لسرد كل التفاصيل المعروفة وخصوصا لمن عاشوا الحدث، لكن ما يمكن قوله إن عبارات عبدالناصر هي التي جعلت مصر، ومعها الدول العربية، تعبر مرحلة الهزيمة العسكرية والنفسية، وتستعيد بعض قواها بعد التدمير الذي شملها .. وترسم معالم مراحل أتت لاحقا لا تغيب عن عين الراصدين .
في الجانب الآخر، لم أر عبارات رعناء كتلك التي ادخرها معمر القذافي، خصوصا تجاه ما استجد من غضبة شعبية على حكمه، ووعيده لخصومه بالمطاردة (زنقة زنقة)، بل الصياح في وجه أناسه : (من أنتم ؟) دليلا على تصغيره لشأنهم وتبخيسه لمواقفهم .
ولا مجال ـ أيضا ـ لسرد كل التفاصيل والتداعيات جراء كلمات القذافي والتي لا تغيب ولن تروغ عن عين الراصدين .
يقول العرب إن الحرب أولها كلام . ويقول أهل الحكمة إن الكلمة كالرصاصة .. إذا انطلقت لن يكون هناك مجال لإرجاعها .
ترى هل يعي الممسكون بحراك المشهد السياسي الآن ما تحتويه الكلمة من دوح أو ألغام ؟ أم أنهم يمارسون شهوة الكلام ثم لتقم القيامة أو تقعد بعد ذلك ؟!
إن من أقوى سمات اللين القدرة على الاعتراف بالزلل، وشجاعة الاعتذار عن الخطأ . تلك قيمة إنسانية لا تتحمل نرجسية الـ (نحن) . فكل البشر يضعفون أمام شجاعة الاعتراف، وكلهم يتعاطفون مع الاعتذار، ولقد شهدنا أمريكا تغلي حين ولغ الرئيس السابق كلنتون في خطيئته الشهيرة مع المتدربة (مونيكا) داخل المكتب البيضاوي، ورأينا كيف استطاع كلنتون كسب المعركة الخاسرة .. باعترافه العلني والشفاف بما جرى، ثم اعتذاره عن كل الذي حدث، لتنفتح أمامه أبواب الغفران الشعبي على مصاريعها !
حتى التراث الشرقي والعربي مليء بقصص اللين أمام الكلمة، فقيل إن الكلام الليّن يغلب الحق البيّن، ولعل ذاكرة كل شخص فينا تختزن الكثير من القصص الواقعية، وكلها تزخر بمواقف العفو والتنازل عن الحقوق، بفعل الكلمة الطيبة والاعتذار الرقيق .
أعمق مشكلاتنا مع أهل السلطة والقرار أنهم لا يقرون بأخطائهم، وأن معينهم لا ينضب من المراوغة والتبرير، وفيهم من يريد إيهام النفوس بكسوف كامل رغم الشمس الساطعة في رابعة النهار !
كما أن من أكبر آفات الممارسة الرسمية انعدامثقافة الاستقالة، التي تعني الإقرار بالخطأ، فالكل يتشبث بالوظيفة العامة ولا يتخلى عنها إلا بالتنحي الإجباري، وهذا مما يبث إحساس التمادي لدى العامة، فيزداد غل النفوس .. وتزداد العوامل المفجرة للبراكين وسط الناس .
هكذا يمكن أن نفهم بعض جذور تأزماتنا، وهكذا يمكن أن نتحكم في بعض صناعة المستقبل، فما نغرسه من عناد ولغة إقصائية ومفردات فجة .. نحصده تمزقا وفرقة عاجلا أو آجلا . كما أن ماننميه من قيم الكلام الطيب والاعتذار والشفافية والإقرار بالخطأ .. سيكون له ثماره اللاحقة في التجويد والإصلاح والتداول للوظيفة العامة المستند على الكفاءة والعطاء .
تلك هي الخلطة السرية التي فاتنا تعميمها، فبقيت الكلمة الجميلة حكرا على العشاق والشعراء، وبقي التحريض والاستعداء والتبخيس والتحدي بضاعة مزجاة على قارعة الاختلاف، لينتج عنها واقعنا الحالي .. بكل البثور المحتقنة على وجهه الحزين .