ليست القضية هي فشل العصيان المدني أو نجاحه، فالخرطوم عرفت الآن أن هناك ثلاثةفرق تتنازع المشهد حول النظام الحاكم وأحقيته بالبقاء أو الرحيل الفوري عن الساحة.
الفريق الأول، والذي قد يمثل 25%، يتشدد في الانحياز للنظام الحاكم إما بعواطف دينية إسلامية، أو بتوجس من مصير مجهول قد تنزلق إليه الأوضاع حال انهيار النظام الذي يقوده عمر البشير منذ 27 عاما .
والفريق الثاني، ولعله يمثل أيضا 25%، يتشددأيضا ولكن في الاتجاه الآخر، حيث ينادي باقتلاع النظام الحاكم من جذوره، مع الرهان على حراك ثوري قادر على كبح الانهيارات التي يمكن أن تقع فيها الثورات بعد نجاحها .
أما الفريق الثالث والأخير، ولعله يمثل 50%، فهو ما يمكن وصفه بالتيار الصامت، وربما الحائر، والذي تتنازعه الكثير من الأحلام الوردية والكوابيس المرعبة، وتطغى عليه العاطفة الدينية الإسلامية حينا، وتصدمه ممارسات وعلامات فساد طاغ تتهدد حلمه بالعدالة والأمن الاجتماعي حينا آخر .
وفي حين ترى الحكومة في عدم استجابة قطاع الخدمة المدنية للعصيان المدني الذي أعلنه ناشطون معارضون بدءا من 19 ديسمبر الجاري، دليلا على رضائية كاملة تحظى بها واستفتاء على شرعيتها، ترى المعارضة أن الحكومة لجأت لأساليب الابتزاز .. بالتلويح بالفصل من العمل والحرمان من فوائد ما بعد الخدمة لكل من يستجيب للعصيان، ما يهدد الأمن المعيشي لأسر تعاني أصلا من شظف العيش وصعوبات الحياة .
والواضح أن هناك تململا واسعا من المعالجات الحكومية في الشأن الاقتصادي، وواضح أيضا حالة إحباط متسعة من كل ما يجري على المسرح السياسي، وترتفع الأصوات بالاتهامات الصريحة لنظام البشير بالتفريط في وحدة البلاد، وتعبيد الطريق أمام انفصال الجنوب السوداني، واستعداء أمريكا دون مصلحة سوى التهييج العاطفي لأجل المزيد من تشديد القبضة على السلطة، لتتهاوى البلاد بعقوبات واشنطن، ويهلك السودانيون ـ دون حكومتهم ـ جراء تداعيات تلك العقوبات، بفعل اندياحها لتشمل كل قطاعات الحياة تقريبا .
لكن الحكومة لها تكتيكاتها المبنية على الواقع الإقليمي الحالي، وتحديدا ما آلت إليه الثورات في سوريا واليمن وليبيا، وأنصارها يشيعون رعبا مبررا، من انهيار النظام، بما يمكن أن يؤدي إليه من كوارث، خصوصا بوجود الحركات المسلحة المناوئة لنظام الخرطوم، وتنامي الاحتقان الاثني والسياسي والجهوي في البلاد .
وفي حين سعى النظام الحاكم في الخرطوملاسترضاء قطاعات من معارضيه، بفتح المجال لحوار وطني تحت مظلته، فشل في استقطاب أهم اللاعبين في ذلك المسرح، وعلى الأخص الحركات المسلحة الكبرى في إقليم دارفور المضطرب، ومناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق، والتي تمثل رأس الرمح في قيادة المواجهةالمسلحة مع نظام البشير .
كما أن النظام الحاكم حرص على تأكيد سعيه لحكومة قومية متسعة تشمل جميع من شاركوا في الحوار الوطني، وضرب موعدا لإعلان تلك الحكومة في يناير القادم، لكن المراقبين يجمعون على أن أي تسوية وطنية لأزمات السلطة لن تنجح بغياب أباطرة الحرب في مناطق النزاع .
والمؤكد أن حالة الشد والجذب الكبيرة تبدو بلا شواطئ، فالنظام القائم تجذر في الكثير من مفاصل الحياة وهذا ما يجعل ذهابه الفجائي محفوفا بالمخاطر، كما أن المعارضة المتنامية للنظام لم يهدأ أوارها حتى بوجود الحوار الوطني ومخرجاته، فالثمن الذي يطلبه المعارضون هو الاقتلاع الكامل لا الترميم، ما يوسع الهوة بين الفرقاء إلى أبعد مدى .
وفي ظل هذه الأجواء المفعمة بالتشرذم، تبدو المخارج الآمنة للسودان صعبة ما لم يتغير المشهد السياسي الحاكم بأكمله ولكن برضاء النظام ومناصريه .. وفي نفس الوقت ببروز روح سياسية، لا ثورية، وسط المعارضة السودانية المدنية أو المسلحة، بحيث يحدث انتقال هادئ وتدريجي للسلطة وبرضاء كل الأطراف .. مع القبول بعفو عام يشمل الجميع، تحميه سلطة مؤقتة مختارة بعناية من الجيش والتكنوقراط والمستقلين والقوى الحديثة المتطلعة لممارسة دورها في رسم معالم المستقبل .
بهذه التوليفة يمكن أن يخرج السودان من مأزقه السياسي والاقتصادي المترتب عليه، كما يمكن له أن يسارع بكسر العقوبات الاقتصادية الأمريكية الماسكة بخناقه منذ عقدين، ليتنفس بلا أجهزة مساعدة، ويتمكن، في مرحلة تالية، من الانتقال إلى حياة ديمقراطية سليمة ومأمونة .
أما الاستغراق في جدليات العصيان المدني بين النجاح والفشل، فلن يؤدي سوى لمزيد من الاحتقان، وربما للانتقال من مرحلة المواجهات السلمية الحالية إلى مربع أكثر خطورة على السودان بأجمعه .