: آخر تحديث

وعد الصبر

2
2
2

ليلى أمين السيف

الخريف ليس مجرد فصل، بل قصيدة مرئية.. تُكتَب بالألوان وتُرتّلها الأرواح. هو لوحة تمزج بين دفء الذكريات وبرودة النهايات.

ففي الخريف يتجمّل الحزن، وتتأنق الفوضى، ونتعلّم أن الجمال قد يسكن في الرحيل؛ وأن في التغيّر حياة، وفي الصبر وعدٌ خفيّ بميلاد آخر.

وألوان الشجر.. يا الله، ما أبهى تقلباتها!

ألوان الأوراق تتدرّج كلوحة فنية متقنة، من الأخضر الزاهي إلى البني الدافئ، ثم الأحمر الناري، يليه البرتقالي المشتعل، وأخيرًا الأصفر الهادئ. تخضرّ، تصفرّ، تحمرّ، ثم تميل للجفاف... لكنها تفعل ذلك بكرامةٍ عجيبة، بجمالٍ أخّاذ لا يُبكي العين، بل يُدهشها، ويُحكي قصة حياة تفيض بالأمل والرحلة المستمرة.

كل ورقة، قبل أن تسقط، تفتن الناظرين. تُدرّسنا أن حتى في لحظات الانتهاء.. يمكن أن نكون فاتنين.

الخريف ليس فصل الموت.. بل فصل الإدراك.

حين ندرك أن التغيّر سنة، وأن الجفاف مؤقت، وأنّ كل ما يتساقط من بين أيدينا يترك مساحةً لأشياء أخرى أجمل وأكثر نضجًا.

فكل ورقة تتهاوى، لا تسقط عبثًا، بل تهمس:

«قد آن الأوان للتخلّي، للسكينة، للبداية التي لا تأتي إلا بعد نهاية

اليوم الجو «أكتوبري» بامتياز: رياحٌ باردة تداعب الوجوه المتعبة فالهواء عليل، فيه نَفَس وداعٍ حنون لا قسوة فيه، بل رقة من نوع خاص، وشمسٌ تظهر على استحياء كقلوب الطيبين لا يميزها إلا من يعرف النور جيدًا. وغيومٌ تتراكم كالأفكار الثقيلة فوق القلب، لكنها لا تلبث أن تمطر رشّاتٍ منعشة، كأنها رسائل من السماء: «أنا معك، لا تحزن».

لا تحزن وابتسم، فهي حياة تُعاش مرة واحدة؛ فكن متفائلًا فبعد التخلّي.. تعرٍّ تمامًا كفصل الشتاء حين يعقب الخريف: تتجرد الأشجار من كل شيء، تقف عارية إلا من جذورها الراسخة، لكنها لا تيأس.. لأنها تعرف أن الربيع قادم، وأنه حين يعود سيكسوها حياةً جديدة، أزهارًا أجمل، وظلالًا أوسع.

فما إن يطوي الشتاء عباءته الثقيلة، حتى يزحف الربيع بخُطى من نور، كضمادةٍ دافئة، يُربّت على ما انكسر، ويُحيي ما كنا نظنه قد مات، ويزرع في القلب وعدًا صادقًا: أن كل شيء يمكن أن يبدأ من جديد.

حينها يزحف الربيع بخُطى من نور، كضمادةٍ دافئة، يُربّت على ما انكسر، ويُحيي ما كنا نظنه قد مات، ويزرع في القلب وعدًا صادقًا: إن كل شيء يمكن أن يبدأ من جديد. فيهل الربيع، وتُزهر البراعم، وتولد الأوراق من رحم الغياب.. وتُبعث الحياة من جديد، بفضل الله.

وأكثر ما يجرح الشجر عليك يا فصل الخريف: هتكت ستر غصونه وأسرفت في كلّافها.

فلا تندم على الخريف، فهو من يجهّزك لربيعٍ أجمل. الخريف يعلّمنا جمال التغيّر، وضرورة التخلّي، وصدق الثبات.

فلا شيء يبقى على حاله؛ حتى الشجر حين يتعرّى من زينته لا يصرخ ولا يشكو.

يمكث صامتًا، متشبثًا بجذوره، كأنّه يعرف سرّ الحياة: إن بعد كل خريف، يأتي الشتاء ليغسل الأحزان، ثم يولد الربيع من رحم الصبر.

لا استعجال، لا ضجيج.. فقط انتظار هادئ، وثقة لا تُقال، لكنها تُحسّ في كل نبضة قلب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد