منذ نهضة القرنين الخامس عشر والسادس عشر، التي نقلت أوروبا من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة، ما زال الغرب إلى اليوم هو القوّة الأكثر هيمنة على مقدّرات العالم. كانت النهضة الأوروبية في البداية ثورة فنية، خصوصاً في العمارة والرسم والنحت، انطلقت من مدينة فلورنسا، عاصمة توسكانا. كان الطموح آنذاك تخطِّي القرون الوسطى، والعودة إلى ما قبلها، إلى محاكاة الحضارتين اليونانية والرومانية القديمتين. لكن بعد زمن من التحولات الفكرية والمعرفية والعلمية والأدبية والاقتصادية والسياسية، امتدّت إلى مجمل الغرب الأوروبي، تبيّن أنها ثورة ثقافية كبرى انتهت معها حقبة طويلة من التاريخ البشري وبدأت أخرى. بدأت الأزمنة الحديثة التي نحن فيها. ومن لا يمعن النظر إلى تلك الثورة ويدرك منطلقاتها ومساراتها ونتائجها، يبقى مقصّراً عن فهم العالم المعاصر وفي غربة عنه. هي «فكر التنوير»، والثورة الصناعية، والثورة العلمية والتكنولوجية، والثورة الفردية (تحرير الأفراد من هيمنة الجماعات)، والثورة الديمقراطية (الشعب هو مصدر السلطات)، والثورة الأدبية والفنية المستندة إلى «الأنا»، والثورة الفرنسية الكبرى، آخر القرن الثامن عشر، التي أسقطت «النظام القديم»، بطبقاته الثلاث، برمّته.
هكذا أمّنت النهضة الأوروبية للغرب تفوقاً علمياً وتكنولوجياً وإدارياً وعسكرياً بالغاً على سائر مجتمعات العالم، من أقصاه إلى أقصاه، أتاحت انطلاق الاستعمار الأوروبي في كل الاتجاهات حتى أقاصي الصين. ونشأ مع هذا التفوّق الاعتقاد، الذي دام طويلاً، بأن هناك الحضارة الأوروبية المتقدمة، من جهة، والمجتمعات الموصوفة بـ«البدائية»، من جهة أخرى، في سائر أنحاء العالم. وحين نشأ علم الأنثروبولوجيا الثقافية في القرن التاسع عشر، كان هدفه دراسة المجتمعات «البدائية» لتسهيل إدارتها من السلطات المستعمرة، ومعرفة كيفية «تطويرها» في اتجاه النموذج الأوروبي... لكن منذ عشرينات القرن الماضي، تخلّى علم الأنثروبولوجيا عن ذلك المفهوم التطوّري، ليضحى علماً متخصّصاً في مجمل المجتمعات والحضارات، المعاصرة والقديمة والبائدة، مقارناً بينها من دون أي مفاضلة ومحترماً خصوصياتها.
عام 1938، عشيَّة الحرب العالمية الثانية، كان الاستعمار الأوروبي قد وصل إلى ذروة سيطرته على العالم، خصوصاً مع الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية. لكنَّ تلك الحرب المرعبة، التي حطّمت خلالها الدول الأوروبية الكبرى (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا)، بعضها بعضاً، وتركت وراءها نحو ثمانين مليون قتيل، عسكري ومدني، وعدداً لا يُحصى من الجرحى والمعوقين، ودماراً عمرانياً واقتصادياً هائلاً، أطلقت شرارة التحرّر من الاستعمار في كل مكان. وعلى الرغم من انحسار الاستعمار الأوروبي وزواله، فقد حلّت محله القوة الأميركية الصاعدة، مكرّسة استمرارية الهيمنة الغربية، مع نسبة من التراجع في ظلّ الصراع الأميركي - السوفياتي. وعند انهيار الاتحاد السوفياتي، ثم نهوض الصين والهند وكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها، وقبلها بكثير اليابان، برز الاعتقاد بأن عالماً متعدّد القطب، قوامه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والهند، سيحلّ محلّ السيطرة الغربية الأحادية ثم شبه الأحادية، منذ قرون. لكن حروب الشرق الأوسط، المستمرّة منذ «طوفان الأقصى»، لم تترك مجالاً للشك بأن الغرب، الأميركي - الأوروبي، ما زال هو القوة المهيمنة.
إلى أين النفوذ الغربي في العالم؟ سؤال كبير يُطرَح. إذا كان من تهديد لقوة الغرب، فهو يكمن في داخله أكثر بكثير ممّا هو خارجه. هكذا كان الأمر على الدوام، واليوم أيضاً. كانت على مدى زمني طويل الصراعات القومية، بين الدول الأوروبية العظمى، التي هي في الحقيقة حروب أهلية أوروبية، هي التي أنهكت «القارة القديمة». من الحروب النابليونية، إلى الحرب الفرنسية - الألمانية، إلى حرب القرم، إلى الحربين الكونيتين الرهيبتين، الأولى والثانية، فقدت أوروبا نحو مئة مليون قتيل، وحلّ بها دمار لا يوصَف.
ومع أن الحروب القومية الأوروبية الغربية وضعت أوزارها من زمان، فما زال الخطر الأكبر الذي يهدّد الغرب يكمن في داخله. في غياب الصراعات القومية، يبرز الصراع الداخلي العميق والخطير؛ الثقافي والآيديولوجي، في كل أنحاء الغرب الأميركي والأوروبي، بين رؤيتين للهوية الغربية لم يعد من مهادنة بينهما: الرؤية القومية المحافظة المتمسكّة بما يمكن تسميتها «الهوية الأصلية» للمجتمعات، والرؤية الليبرالية اليسارية المدافعة عن «الهوية التعددية»، المنفتحة على المهاجرين من كل المشارب والأعراق. وما يزيد هذا الصراع حدةً أن السلطة في الأنظمة الديمقراطية الغربية يمكن أن تنتقل من محور إلى آخر كل أربعة أعوام. انتظارٌ مصيريٌّ دائم يرافقه شبح الاغتيالات والفتن ويترك انعكاساته على العالم أجمع، والنار تحت الرماد.