في عددها (6001)، تستعيد المدى — لا بوصفها مؤسسة إعلامية فحسب، بل بوصفها جهازاً ثقافياً–نقدياً مضاداً — سرديتها الأولى التي تأسست عليها في عام 2003: سردية العودة من المنفى إلى الداخل، من الهامش إلى المركز، من الخطاب الثقافي إلى الفعل العمومي. لم تكن تلك العودة احتفالية، بل كانت لحظة تأسيس جديدة لوعيٍ ما بعد–استبدادي، يحاول أن يبلور مفهوماً للديمقراطية ليس كآلية تداول، بل كقيمة إنسانية شاملة، وكبنية رمزية مضادة لنظام السلطة الكليانية الذي حكم العراق عقوداً طويلة، ثم أعيد إنتاجه لاحقاً في شكل تراجيدي باسم الديمقراطية. ومنذ أن تولى الحاكم المدني بول بريمر إدارة العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، مروراً بكل من تعاقب على السلطة بعده، لم تكن هناك — لا في الأهداف ولا حتى في النوايا — إرادة حقيقية لبناء دولة مدنية حديثة قابلة للحياة. فقد انشغل الفاعلون السياسيون، المحليون والدوليون، بإعادة هندسة السلطة لا بإعادة تأسيس الدولة، وبترسيخ المحاصصة لا ببناء المؤسسات. تحول المشروع السياسي، الذي كان يفترض أن يكون مشروع إعادة تأسيسٍ وطني، إلى مشروع توزيعٍ ما بعد–دولتي للسلطة قائمٍ على الزبائنية والولاء والهويات الفرعية، لا على المواطنة والكفاءة. ومن ثم، فإن الطبقة السياسية التي تمتلك من الموارد والقدرات ما يكفي لبناء دولةٍ عصريةٍ فاعلة، جعلت من العراق نموذجاً لما يمكن تسميته في الأدبيات السياسية بـ "خراب الدولة" (state decay)، أي حالة التآكل البنيوي التدريجي لكيان الدولة حتى تغدو كياناً شكلياً بلا مضمون.
لقد اختزلت تلك الطبقة مفهوم الدولة إلى جهازٍ لتوزيع الريع، فأفرغت المؤسسات من محتواها القانوني والإداري، وحولتها إلى أطرٍ بيروقراطيةٍ عاجزة، فاقدةٍ للكفاءة والشرعية. لم تعد الدولة في العراق بنية سيادية، بل هيكلاً ريعياً هشا يعيش على تدفق النفط، غير قادرٍ على إنتاج ثروةٍ حقيقيةٍ أو تنميةٍ مستدامة. أما النظام السياسي، فقد تشكل من أنقاض النظام الدكتاتوري السابق، فاحتفظ بآلياته العميقة في احتكار السلطة، واستبدل رموزه من دون أن يغير منطقه. وهكذا، بدل أن يدخل العراق مرحلة التحول الديمقراطي، دخل مرحلة ما يمكن تسميته بـ "إعادة إنتاج الاستبداد في سياقٍ تعددي زائف"، حيث بقيت الدولة شكلاً من أشكال "السلطة المبتورة": مؤسسات بلا فعالية، سيادة بلا مضمون، واقتصاد بلا إنتاج، وحياة سياسية تستمد حيويتها من حطام الماضي لا من طاقة المستقبل.
منذ لحظتها الأولى، فهمت المدى أن الغزو الأميركي عام 2003 لم يكن تحريراً بقدر ما كان إعادة تشييد لنمط آخر من الهيمنة. لقد قرأ مثقفوها، العائدون من المنافي، المشهد العراقي من خلال ما يمكن تسميته بـ المفارقة المأساوية للتحرر: فالتحول السياسي الذي جرى باسم الديمقراطية كان يحمل في جوهره بذور نقيضه — أي التفكك، والاحتراب الأهلي، والانتقال من الدولة الشمولية إلى الدولة الزبائنية الريعية، ومن الاستبداد المركزي إلى الاستبداد المتعدد. لذلك لم تنخرط المدى في خطاب الانبهار بالتحول، بل تبنت مبكراً موقف النقد الجذري، انطلاقاً من أن الحرية التي تفرض بالقوة تفقد مشروعيتها الأخلاقية، وأن الديمقراطية التي تدار من الخارج تتحول إلى تقنية إدارة تبعية لا إلى بنية مواطنة.
لقد كانت رؤية المدى الأولى سياسية–أنثروبولوجية في جوهرها: أن العراق بعد سقوط النظام لم يدخل مرحلة التحديث السياسي، بل مرحلة إعادة إنتاج العصبية ما قبل–الدولتية في صورة مؤسسية. لقد حذرت المدى في مقالاتها الافتتاحية من أن النظام الجديد يقوم على محاصصة هوياتية لا على تمثيل وطني، وأن مفهوم "الشراكة السياسية" سيؤول إلى تقنينٍ للطائفية كإيديولوجيا للدولة، وإلى تطييف الاقتصاد والثقافة والمجتمع معاً. وبالفعل، تحول البرلمان إلى فضاء لتبادل الغنائم، والوزارات إلى حصص رمزية للطوائف، والديمقراطية إلى واجهة شكلية لنظام كليبتوقراطي.
في مواجهة هذا التحول البنيوي، تبنت المدى وظيفة مزدوجة: نقد السلطة لا بوصفها سلطة سياسية فحسب، بل كبنية رمزية وثقافية تولد القهر وتعيد إنتاجه. وبهذا المعنى، لم تكن المدى صحيفة بالمعنى التقليدي، بل جهازاً أيديولوجياً مضاداً، يعمل على تفكيك الميتافيزيقا السياسية التي تربط الدولة بالعقيدة، والزعامة بالقداسة، والمجتمع بالولاء. لقد وضعت الصحيفة نفسها داخل ما يمكن تسميته بـ الحقل المضاد للهيمنة، حيث الصحافة تتحول إلى ممارسة ثقافية مقاومة، وإلى أداة لإعادة توزيع الرأسمال الرمزي داخل الفضاء العام.
ومن هذا الموقع، انخرطت المدى في نقد ما سماه أنطونيو غرامشي بـ الهيمنة الثقافية التي مارستها القوى الطائفية بعد 2003، والتي جعلت من الدين خطاباً تبريرياً للسلطة الجديدة، ومن الطائفة آلية لإدارة الولاء السياسي. لقد كتبت المدى بوضوح أن التحول العراقي لم يكن انتقالاً من الشمولية إلى الديمقراطية، بل من الدولة السلطوية إلى الدولة الثيوقراطية–الريعية، حيث تستبدل الميتافيزيقا القومية بميتافيزيقا مذهبية. ولأنها كانت واعية بأن هذا التحول ليس محلياً بل جزء من سيرورة عالمية لإعادة تشكيل المجال السياسي في الشرق الأوسط، فقد قرأت المشهد في ضوء التحليل السياسي–الاقتصادي الجديد الذي يمكن تسميته بـ النيوليبرالية السلطوية، وهي الصيغة التي تتزاوج فيها اقتصاديات السوق الحر مع أجهزة القمع والفساد والزبائنية.
بهذا المعنى، شكل الخطاب التحريري لـ المدى منذ بدايته نوعاً من النقد البنيوي للدولة ما بعد–الاحتلال، دولةٍ تستبطن المنطق النيوليبرالي في توزيع الثروة والسلطة، وتعيد إنتاج ثقافة التبعية تحت قناع الديمقراطية. لقد كانت مقالاتها محاولة دائمة لتفكيك “العقد الزائف” بين الحرية والليبرالية، مؤكدة أن الديمقراطية ليست مجرد تعددية حزبية بل مشروع إنساني قائم على العدالة والمساواة وحقوق الإنسان. ولذلك، رفضت الصحيفة الانزلاق إلى خطاب النفعية السياسية، ورأت في المثقف لا موظفاً في جهاز الدولة، بل فاعلاً نقدياً داخل ما تسميه حنة آرندت بـ “الحيز العمومي للفعل”، حيث يصبح الكلام نفسه شكلاً من أشكال المقاومة.
في لحظات الانحدار العميق، حين بلغ النظام السياسي ذروة فساده الأخلاقي، لم تتردد المدى في تسمية الأشياء بأسمائها. وصفت ما يجري بأنه تفكك للسيادة الرمزية للدولة، وتحول الطبقة السياسية إلى شبكة مافيوية قائمة على الزبائنية والفساد والإفلات من المساءلة. في مقالاتها الافتتاحية، أعادت تعريف الفساد لا كظاهرة مالية بل كبنية قيمية، وكأخطر تجليات اغتراب الدولة عن مواطنيها. فالفساد، كما كتبت، ليس انحرافاً أخلاقياً بل نظام إنتاجٍ سياسي جديدٍ يعيد توزيع السلطة والثروة وفق منطق الولاء، لا وفق منطق القانون.
وحين انطلقت انتفاضة تشرين، لم تنظر المدى إلى الحدث من زاوية الاحتجاج السياسي فحسب، بل قرأته كتحول إبستمولوجي في الوعي الجمعي العراقي. رأت في حراك الشباب لحظة انكشاف تاريخي لبنية السلطة الريعية، وعودة السياسة إلى الشارع بوصفها ممارسة وجودية، لا تقنية مؤسساتية. في افتتاحياتها، استدعت مقولات الحلم بمساواة اجتماعية كاملة، لتؤكد أن تشرين لم تكن مجرد احتجاج، بل محاولة لإعادة تشييد الدولة والمجتمع على أسس جديدة: سيادة الشعب، التداول الحقيقي للسلطة، وإعادة امتلاك المجال العمومي من قبل المواطنين أنفسهم. ومع ذلك، حين واجهت السلطة هذا الحراك بالقمع الممنهج والاغتيال واعتى صنوف الوحشية، والرغبة الهوجاء في السلوك الابادي، وقفت المدى بكل شجاعة في موقعها الأخلاقي الثابت: معلنة دون مواربة او استخدام تعبيرات رمادية ان من يقوم بالقتل هي السلطة ذاتها، وقد وقفت وبكل قوة الكلمة مع ضحايا القتل الاجرامي الخائن.
لم تكتفِ المدى بالتحليل السياسي، بل امتد خطابها إلى نقد البنية الثقافية الموازية للانهيار السياسي. لقد حذرت من صعود ما تسميه "اللاهوت النيوليبرالي"، أي تلك الأيديولوجيا التي تؤله السوق وتختزل الإنسان إلى مستهلكٍ دائم. كتبت أن المجتمع العراقي يعيش تحت هيمنة مزدوجة: ثيوقراطية سياسية من جهة، ورأسمالية استهلاكية من جهة أخرى، وأن هاتين القوتين، رغم تناقضهما الظاهري، تلتقيان في نفي الذات الحرة. فالثيوقراطية تصادر الفرد باسم الله، والنيوليبرالية تصادره باسم الربح. وفي مواجهة هذين القطبين، تبنت المدى خطاباً تنويرياً يسعى إلى إعادة تأسيس المجال العمومي على قيم العقلانية، والعدالة الاجتماعية، والمواطنة المتساوية، والمساواة الجندرية.
كما جعلت من الدفاع عن المرأة أحد ثوابتها الجوهرية. لم يكن ذلك مجرد خيارٍ ثقافي، بل موقفاً أنطولوجياً من العالم، انطلاقاً من أن تحرر المرأة هو المؤشر الحقيقي على تحرر المجتمع. وقد كتبت مراراً أن المجتمعات التي تعيد إنتاج البطريركية الدينية والسياسية لا يمكن أن تنتج ديمقراطية حقيقية. لذلك، وضعت قضية المرأة ضمن مشروعها الأوسع لتفكيك البنية الذكورية للسلطة في العراق، سواء تمظهرت في البزة العسكرية أو في لغة الخطاب السياسي ذاته.
وفي الوقت نفسه، انحازت المدى إلى الشباب بوصفهم الفاعل التاريخي الجديد في المجال السياسي العراقي، لا بوصفهم امتداداً لخطاب المثقفين التقليديين، بل بوصفهم جيلاً ما بعد–أيديولوجي يسعى لتفكيك ثنائية الدولة–الحزب، واستعادة السياسة كفعلٍ حيوي مباشر. رأت فيهم القوة الأنطولوجية التي يمكن أن تعيد إنتاج العراق من تحت أنقاضه، وفتحت صفحاتها لنقاشاتهم وأحلامهم وأسئلتهم الوجودية.
اليوم، ونحن نصدر عددنا (6001)، لا نحتفي بكمية الأعداد، بل بنمط من الاستمرارية النقدية في زمن الانقطاع، وبقدرة الكلمة على البقاء في وجه مؤسسات النسيان. فمشروع المدى ليس صحافياً بل مشروع إعادة تأهيل للوعي السياسي العراقي ضمن أفق إنساني كوني. نحن نكتب ضد الفساد لا لأننا نؤمن بالطهرانية الأخلاقية، بل لأن الفساد هو الشكل الأعلى للعدمية السياسية. نكتب ضد الثيوقراطية لا لأننا ضد الدين، بل لأننا نؤمن أن الإيمان شأن فردي لا يمكن تحويله إلى جهاز قمع. نكتب ضد النيوليبرالية لا لأننا ضد السوق، بل لأننا ضد تحويل الإنسان إلى سلعة. نكتب ضد الاستهلاك لا لأننا ضد الرفاه، بل لأننا ضد تحويل الثقافة إلى ترفٍ في زمن الفقر.
لقد كانت المدى، منذ البداية، فضاءً تأسيسياً لما يمكن تسميته بـ الحداثة العراقية الثانية، حداثةٍ تتجاوز النموذج السياسي للدولة الوطنية الفاشلة نحو نموذج الدولة المدنية التي تقوم على العقل النقدي. وبهذا المعنى، فإن استمرارها هو استمرارٌ لفكرة التنوير داخل شروط الانهيار، واستعادةٌ لفعل الكتابة بوصفه فعل مقاومةٍ رمزية ضد التواطؤ الجمعي مع القبح والفساد والنسيان.
لهذا، فإن هذا العدد ليس احتفالاً بذكرى، بل تجديد للعهد: أن تظل المدى في قلب الصراع الثقافي والسياسي، أن تبقى جهازاً نقدياً مضاداً لكل أشكال السلطة المغلقة، أن تدافع عن المجال العمومي كحق طبيعي للناس، وأن تستعيد للفكر العراقي مكانته في الفضاء الكوني، حيث تكون الكلمة فعلاً، والحرية قدراً، والعقل — لا العشيرة ولا الطائفة ولا السوق — هو المبدأ الناظم للعالم.