بالرغم من مثالب المقال العديدة، وما تضمنه من أخطاء تاريخية ودينية كبيرة، فإن تساؤله يبقى مهماً، وسنحاول الإجابة عنه، بطريقتنا، قدر المستطاع.
السؤال ليس لماذا نجح أتاتورك، وفشل رضا شاه، بل لماذا لم يواجه الأول مقاومةً حقيقية من المؤسسة الدينية، حين نفَّذ مشروعَ علمنة تركيا؟ ولماذا في المقابل استطاعت المؤسسة الدينية في إيران وأد مشروع رضا شاه، وإفشال علمنة إيران، مع عجزها عن معارضة إصلاحاته الأخرى؟
الجواب يتلخص في شخصية الزعيمين، وفي طبيعة المؤسسة الدينية وظروف البلدين التاريخية، في فترة مفصلية، بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية.
حكم رضا شاه إيران من 1925 إلى 1941، ونجح في تحقيق إصلاحات ضخمة، غيرت هوية المجتمع الإيراني بشكل كبير، منها تحديث الجيش، وإنهاء سلطة القبائل، وإصلاح القوانين على النمط الفرنسي، وإلغاء امتيازات الأجانب، ونقل القضايا الشرعية للمحاكم المدنية، ونجاحه النسبي في فرض خلع الحجاب، ومنع الرجال من ارتداء اللباس التقليدي الإيراني، وفرض تعليم المرأة، ورفع سن الزواج، ومنح المرأة بعض حقوق الطلاق، وتأسيس جامعة طهران، وتغيير مناهج التعليم، وتغيير اسم الدولة من «فارس» إلى «إيران»، ووضع نظام ضرائب حديث، وتحسين البنية التحتية، ومصادَرة أراضي الاقطاعيين، وتقوية الشعور القومي، على حساب التقاليد الإسلامية، والنجاح جزئياً في إضعاف سلطة رجال الدين، وقمع المعارضين.
* * *
تاريخياً، اختلفت الأسس التي قام عليها الإسلام السني عن تلك التي قام عليها الإسلام الشيعي. فإسلام الدولة العثمانية كان جزءاً من السلطة، كون رجال الدين موظفي دولة معينين، كما الحال مع شيخ الأزهر. وكان السلطان التركي هو «خليفة الله»، وعندما استولى أتاتورك على الحكم، 1923–1938، وفرض إصلاحاته، لم يكن في تركيا شيخ دين واحد يَملك شرعية معارضته، فقد سقطت هيبة رجال الدين مع سقوط السلطان، وأتاح ذلك الفرصة لأتاتورك لتطبيق العلمنة دون معارضة تذكر.
أما في إيران، فالوضع كان مختلفاً، منذ أن تحوّل النظام فيه من المذهب السني إلى الشيعي، عام 1501. فقد نتج عن ذلك انفصال المؤسسة الدينية عن الحكومة، شرعياً ومالياً، بفضل أموال الخمس، التي منحت كبار رجال الدين استقلالية تامة، كانت تدفعها، في أحيان كثيرة، لأن تخاصم السلطة، تبعاً لشخصية ومصالح وأهواء كبار مراجع التقليد، الذين كانوا يستمدون قوتهم من أموالهم، ومن ولاء الأغلبية الساحقة من الشعب لهم. لذا كان التاريخ السياسي الحديث لإيران مليء بلحظات الصدام بين سلطة الشاه وسلطة رجال الدين، الذين لم يكتفوا بمعارضة خططه المتعلقة بعلمنة الدولة، بل نجحوا عام 1979 في التخلّص من حكم ابنه محمد رضا شاه، وبالتالي شكلت سلطة الفقيه قوة مضادة للشاه، حتى في عز سطوتهما. فبينما نشأ الفقه السني على قاعدة تثبيت الجماعة للدفاع عن الدولة، ومنع الخروج على السلطان، نشأ الفقه الشيعي على فكرة أن الدولة باطلة أصلاً ما لم تكن بيد الإمام المعصوم، وأن كل سلطان هو غاصب للسلطة، وكل حكم دون سلطة المعصوم هي سلطة غاصبة، ثم جاءت ثورة الخميني وطبقت نظام «ولاية الفقيه»، فأصبح الولي الفقه يمتلك كل شيء تقريباً، السلطة والمال وشرعية الحكم.
أحمد الصراف