لم يعد الإعلام في زمننا المُعاصر مَنارة للوعي ولا جسراً بين الحقيقة والجماهير، يتحول دون أن نعي إلى مسرح صاخب للتفاهة يُدار بمنطق السوق لا بمنطق الرسالة. من سلطة رابعة تحرس الضمير الجمعي وتنشر الوعي إلى أداة تجارية تُدار بنسب المشاهدات والعائدات الإعلانية. لقد تحول المَشهد الإعلامي إلى استعراض بصري ضخم.
المُشاهد لم يعد يتذكر الأفكار ولا جوهر الرسائل، طغت الصورة على المضمون وهو أقرب لما سماه الكاتب ألان دونو في كتابه الشهير «نظام التفاهة» الانحدار نحو هيمنة السطحية على حساب العُمق. في إعلام اليوم العنوان المُثير يسبق المعلومة الدقيقة، واللقطة السريعة تغلب التحليل الرصين، يصف الكاتب ألان دونو هذا الانحدار قائلاً: «لقد تراجعت الكفاءة والمعرفة ليحل مكانها نظام يديره أشخاص يتقنون فن الظهور لا فن الفِعل القيّم».
الإعلام الرقمي في زمن التفاهة لم يعد يبحث عن الحقيقة بقدر ما يلهث وراء نسب المشاهدة والإعجاب والانتشار. صورة مُبهرة أو عبارة صادمة أصبحت اليوم أهم من تقرير مُتوازن أو تحليل مُتعمق. والنتيجة المُشاهد على الشاشات يَجد نفسه أمام صورة فارغة من محتوى مفيد وممتلئة بالتأثيرات البصرية والألوان التي تُبهر العين وتُغيّب العقل. يقول دونو: «في عالم التفاهة لا تحتاج إلى أن تقول شيئاً يكفي أن تكون صورة مُبهرة لتجعل منك مشهوراً».
هذا للأسف ما انتشر في الإعلام اليوم خاصة الإعلام الرقمي، حسابات وصفحات تمتلئ بمحتوي مُتكرر منسوخ ومُنمق بَصرياً لكنه بلا أي قيمة مَعرفية. فالرسالة الإعلامية تحولت إلى استعراض لما يُسمى «ترند»، بينما القضايا الجوهرية يتم تهميشها. والأخطر أن هذه المنظومة أفرزت معايير جديدة، لم يعد الإعلامي الأكثر شهرة هو من يَحفر الحقائق ويُضيء المناطق المظلمة لينشر الوعي، بل هو من يجيد هندسة «صورته» يبيع الانطباع بدل أن يقدم المعرفة، طبعاً هذا لا ينطبق على القلة من الإعلاميين الملتزمين الذين للأسف لا تتهافت المشاهدات عليهم بفضل خوارزميات دُربت على نشر التفاهة لخدمة مصالح سياسية هدفها إلهاء العقل عن قضايا مصيرية. وقد أوضّح دونو ذلك بقوله: «التفاهة ليست أن يكون هناك أشخاص تافهون، بل أن تبني منظومة بحيث تفرض التافهين في الواجهة وتدفع الكفاءات إلى الخلف».
وأكثر، نجد أن إعلام اليوم لم يعد فقط ضحية هذه الظاهرة، بل أصبح هو نفسه مُنتجاً للتفاهة ومُكرِّساً لها، عبر إعادة تدويرها وتسويقها كقيمة عليا.
من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الإعلام الرقمي بوصفه مرآة لعصر يختزل الحقيقة في لقطة، ويختزل التفكير في شعارات، ويُقصي الجدل النقدي لصالح الإثارة اللحظية. إن استمرار هذا الانحدار يُهدد بتحويل الإعلام من منارة إلى مجرد آلة دعائية تعيد إنتاج التفاهة وتُجمّلها. هذا يفتح باب التساؤل: إن كان الإعلام انعكاساً لقيم المجتمع، فهل التفاهة صارت هي القيمة المركزية في ثقافتنا المعاصرة، أم هناك قوى تعمل على تطويع الإعلام ليصنعها وينشرها؟ وهنا نطرح السؤال الأهم: من المستفيد؟
المستفيد من الانحدار إلى مُستنقع التفاهة ليس طرفاً واحداً، بل منظومة مُتشابكة لأن التفاهة في جوهرها كما يصفها ألان دونو: «نظام يضمن البقاء والهيمنة للسطحيين، ويُقصي مَنطق العُمق والمَعرفة». أول المستفيدين هم السلطات السياسية والاقتصادية. الإعلام التافه يصرف الناس عن القضايا الكبرى، يشغلها بالفرجة والفضائح الصغيرة، ويغرقها في ضجيج فارغ يجعل من الصعب تمييز المُهم من التافه. يقول دونو: «عندما تحتل التفاهة مركز الصدارة، فإن أول ما يختفي هو النقاش العمومي الرصين».
السلطة التي تُهيمن على المِنصات الإعلامية تُدرك أن المجتمع المُنهك في مُتابعة نجوم الفضائح أو مَعارك التافهين لا يجد وقتاً ولا طاقة للتساؤل عن الفساد أو العدالة الاجتماعية والإنسانية. تغلب صور المؤثرين التافهين صور أطفال غزة ومآسي الأبرياء. يُغيّب العقل الوعي عن التركيز عما يُخطط له من تغيير لخرائط المنطقة وربما خرائط العالم، الإعلامي المُلتزم يُحاصر في عدد محدود من المتابعين، والتافه الملون يُبهر الشاشة وينتشر وترفعه الخوارزميات وتسميه مؤثراً بملايين المتابعين وبثروة تجذب الكثير لتقليده، وتتهافت عليه شركات الإعلان ذات الميول السياسية الواضحة لتحقيق الهدف الأهم، وهو نشر التفاهة ليكون المجتمع المُغيّب عن الوعي في حالة إلهاء تام عن واقعه.
الخاسر الأكبر في هذا الضياع هو المجتمع، لأن انحدار الإعلام إلى التفاهة يعني انحدار المجال العام بأكمله، يختفي التفكير النقدي، وتذبل الثقافة، وتختفي النقاشات الكبرى لصالح استعراضات الترند، بهذا المعنى يمكن القول إن المُستفيدين ليسوا مجرد أفراد، بل نظام كامل يجد في السطحية وقوداً لاستمراره، لأنها تجعل الناس أقل وعياً وأكثر قابلية للتوجيه.
نعم رغم سطوة الخوارزميات وعجز العالم أمامها، هناك حلول مهمة تناولها بعض التربويين، أهمها، إلى جانب التوعية والمنتديات التي تُكرّم المحتوى الهادف، إدخال التربية الإعلامية في المناهج الدراسية في السنوات الأولى لكون الأطفال واليافعين هم الفئة المُستهدفة بهذا التضليل. لكي نخلق جيلاً مُحصناً فكرياً ومجهزاً بالوعي النقدي نحن أمام تحدٍّ كبير يتطلب الشراكة بين المجتمع والمدرسة، الجيل الصاعد يتعرض يومياً لتيار الصورة التي تبتلع المضمون ونحن جميعاً مسؤولون.
* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية
إعلام التفاهة.. الصورة قبل المضمون
مواضيع ذات صلة