: آخر تحديث

كيلا تضيع الفرص

3
2
4

منذ لحظةِ إعلان قيامِ دولةٍ تحمل اسم إسرائيل عام 1948، ظلَّ السؤالُ عن الفرصِ الضائعةِ لتأسيس دولة فلسطينية يلاحقُ التاريخَ السياسيَّ للمنطقة.

البداية كانت مع القرارِ الأممي عام 1947، القاضي بتقسيمِ فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية، الذي يعدُّ أولَ فرصةٍ جديَّةٍ لتحقيق الحدّ الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، صحيحٌ أنَّ القرارَ لم يكن منصفاً، إذ منحَ اليهودَ أكثرَ من 56 في المائة من الأرض رغم أنَّ نسبتهم السكانية لم تتجاوز آنذاك 30 في المائة، لكنَّه شكَّل اعترافاً دوليّاً بوجودِ كيانٍ فلسطيني إلى جانب الدولةِ اليهودية، لكنَّ غيابَ قيادةٍ فلسطينية موحدة، ورفضَ بعضِ الدول العربية الاعترافَ بالقرار بدعوى عدمِ عدالتِه، جعلَا تلك اللحظة التاريخية تضيع، فيما استغلَّ الإسرائيليون الفراغَ لتثبيت أركانِ دولتهم، ومع مرورِ الزمن، تحوَّل ما عُدَّ ظلماً في الماضي إلى حلمٍ بعيدِ المنال اليوم.

وبينَ تلك اللحظة وما تلاها، تكرَّرت الفرصُ الضائعة، فبعد حربِ 1948 وما تبعها من نكبة، ظلَّ الفلسطينيون مشرَّدين بلا تمثيلٍ حقيقي، حتى جاءت محاولةُ مصرَ بقيادة جمال عبد الناصر عام 1970 لتوحيدِ الفصائل تحت مظلَّة منظمةِ التحرير الفلسطينية، كانَ الهدفُ أن تكونَ هذه المنظمة الممثلَ الشرعيَّ الوحيد للشعب الفلسطيني، لكنْ سرعان ما عادت الانقساماتُ تنهشُ الصَّفَّ الفلسطيني، وظهرت فصائلُ متعددة وصلت إلى 18 فصيلاً تتحرَّك باسم القضية، لكنَّها في واقع الأمر كانت متنازعةً أكثر من كونها متفقةً على برنامج وطني جامع، وهو ما منح إسرائيلَ فرصةً ذهبية لتثبيت مشروعها.

بعد هزيمة 1967 التي أعقبها عرضٌ إسرائيلي بالانسحاب من الأراضي المحتلة مقابل السَّلام، باستثناء القدس، لكنَّه رُفض، وبعد حربِ أكتوبرَ 1973 التي فتحت بابَ الأمل للسلام، استغلَّ الرئيسُ المصري أنور السادات الظرفَ الدوليَّ وتوجَّه إلى القدس في زيارة تاريخية عام 1977، ثم رعى الأميركيون اتفاقيات كامب ديفيد. تلك الاتفاقيات أشارت إلى حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة وغزة، لكن الفلسطينيين لم يكونوا طرفاً مباشراً فيها، كما أنَّ ضغوطاً من بعض الدول العربية دفعتهم إلى الانسحاب من المشاركة، لتضيعَ فرصة أخرى كانَ يمكن أن تمهّدَ لإقامة الدولة، حتى مبادرة الملك فهد بن عبد العزيز عام 1981 التي وضعت تصوّراً متكاملاً لتسوية شاملة، لم تلقَ تجاوباً فلسطينياً كافياً.

ومع مطلع التسعينات، جاء مؤتمرُ مدريدَ عام 1991 الذي فتح الطريقَ إلى اتفاق أوسلو 1993، الذي كان نقطة فارقة، إذ اعترفت منظمةُ التحرير بإسرائيل، واعترفت إسرائيلُ بها ممثلاً للشعب الفلسطيني، وينصُّ الاتفاق على انسحاب تدريجي وإنشاء سلطة حكم ذاتي، لكنَّه سرعان ما تعثر، نتيجة الانقسام الفلسطيني، ورفض «حماس» وفصائلَ أخرى، ثم جاء اغتيال إسحاق رابين. كلّ هذه العوامل قادت إلى انهيار المسار، لتنفجر الانتفاضةُ الثانية عام 2000، عقب فشل قمة كامب ديفيد التي حاول فيها الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون التوصل إلى تسوية نهائية.

تكرَّرت بعد ذلك المبادرات من طابا عام 2001، ومبادرة الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز التي أصبحت فيما بعد مبادرة السلام العربية في بيروت 2002، ثم خريطة الطريق عام 2003، ومؤتمر أنابوليس عام 2007، وكلها ضاعت بين تشدّد إسرائيلي، وانقسامٍ فلسطيني، وعجزٍ دولي، وحتى عام 2008 حين قدَّم إيهود أولمرت خريطة بدولة فلسطينية على أكثر من 94 في المائة من الضفة مع تبادل أراضٍ، لم تكتب لها الحياةُ بسبب ضعف موقفه السياسيّ وانقسام الفلسطينيين.

اليوم، وبينما غزةُ دُمرت بشكل عام بعد نحو عامين من الحرب التي كان شرارتها طوفان السنوار، تطرح خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب فرصةً جديدةً، وتتضمن وقفاً فورياً للحرب، وانسحاباً تدريجياً، وإطلاق الأسرى، وإعادة إعمار شامل بتمويل دولي، وإدارة انتقالية بإشراف دولي، مع مسارٍ للتنمية الاقتصادية وضمانات عربية ودولية تمنع عودةَ العنف، قد لا ترتقي الخطةُ إلى كامل تطلعاتِ الشعب الفلسطيني، لكنَّها تمثل خطوةً أولى في مسارٍ طويل نحو الدولة والاستقرار والبناء.

التاريخ يُعلم أنَّ كلَّ فرصة ضاعت سابقاً تحوَّلت إلى خسارة كبرى، وأنَّ كلَّ تردّدٍ أو انقسام دفعَ الفلسطينيون ثمنَه دماً وأرضاً.

اليوم هناك فرصة سانحة لوقف محاولةِ طي ملفِ الدولة الفلسطينية نهائياً تحت ضغط الاستيطان والتطرف الإسرائيلي، فإذا أحسنَ الفلسطينيون استثمارها، فربما تكون غزة، التي دفعت الثمنَ الأغلى، نقطةَ الانطلاق نحو مستقبل مختلف. أمَّا إذا أُهدرت، فلن تسجّلَ إلا خسارة جديدة في سجلٍ طويل من الإخفاقات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد