محمد بن عيسى الكنعان
بعيدًا عن العاطفة الوطنية، وبتجرد كامل من كل المؤثرات النفسية، ودعوى الحمية، تعالوا أحدثكم عن المملكة العربية السعودية، التي أشغلت أعداءها، وأسعدت أصدقاءها. تعالوا أحدثكم عن أعظم بلد، وأطهر بقاع، تعالوا أحدثكم عن أعظم وحدة وطنية في التاريخ الحديث، تعالوا أحدثكم عن قلب العالم الإسلامي، ومركز القرار العربي، والعمق الإستراتيجي الخليجي. لكن لا أدري - حقيقةً - من أين أبدأ حديثي؟ وأنا أعيش أجواء الفرح الممزوجة بكل معاني الفخر والاعتزاز بمناسبة الذكرى الـ 95 ليومنا الوطني المجيد. هل أبدأ من الأرض التي وُلد على ثراها خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، ومنها انطلقت مشاعل الهداية لكل العالم، فكانت قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم. أم أبدأ من إرثها التاريخي الزاخر بحضارات قديمة سادت فيها مثل: كندة، وقيدار، ومدين، والحجر، وغيرها من الآثار التي تؤكد تميز بلادنا وجذورها في الأزل. أم أبدأ حديثي بنظامنا السياسي المؤسس منذ ما يقرب ثلاثة قرون، هذا النظام الراسخ في ذاكرة التاريخ، والمنقوش على حدود الجغرافيا ممثلًا بالنظام الملكي لأسرة عربية كريمة، وهي أسرة آل سعود، التي استحقت البيعة الشرعية، فقد كان لها الفضل - بعد الله - في عودة المركز الحضاري للإسلام إلى الجزيرة العربية، بعد تنقله في دمشق وبغداد والقسطنطينية، وذلك بتأسيس أول وحدة سياسية مركزية في شبه الجزيرة العربية بظهور الدولة السعودية الأولى عام 1727م (1139هـ) على يد الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - ثم ترسخت أركان هذه الدولة المباركة عام 1824م (1240هـ) على يد الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود - رحمه الله -، ثم إعلان توحيدها في المشهد العالمي تحت راية واحدة، وعلى أرض واحدة، وبقيادة واحدة عام 1932م (1351هـ) باسم المملكة العربية السعودية، على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود - طيب الله ثراه - الذي نجح بعبقريته الفذة، وإرادته الصلبة، وعزيمته الصادقة أن يوحد بلدًا مترامي الأطراف، ومتنوع بالقبائل، والعادات، والتضاريس، وفي ظرف تاريخي دقيق. أم أبدأ حديثي بالجهود الجبارة التي تبذلها المملكة وما زالت خدمةً لضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين وزوار، بالتوسعات الضخمة للحرمين الشريفين، والمشاعر المقدسة، أو جهودها في نشر الدعوة الإسلامية عبر المراكز الإسلامية العالمية، أو في رعايتها للقرن الكريم عبر مجمع الملك فهد لطباعة القرآن الكريم حتى لا تجد رقعة في كل العالم إلا وقد وصلتها نسخ المجمع، أو عبر المسابقات المحلية والدولية كمسابقة الملك عبدالعزيز لحفظ القرآن الكريم، أو في دعمها الإغاثي المستمر وأعمالها الإنسانية الجليلة للشعوب والدول المنكوبة دون تمييز بعرق أو دين. أم أبدأ حديثي بالمسيرة الحضارية لهذه الدولة العظيمة، وسياساتها الثابتة والواضحة داخليًا وخارجيًا، بما يخدم الوحدة العربية والتضامن الإسلامي، وخاصةً القضية الفلسطينية، حيث لم يتوقف الدعم السعودي الذي نراه اليوم فاعلًا ومحوريًا في الحشد الدولي للاعتراف بدولة فلسطين، باعتراف أكثر من 142 دولة سعيًا إلى تنفيذ مبادرة حل الدولتين، ناهيك عن مواقفها العربية المشرفة، تحريرًا للكويت عام 1991م، أو دفاعًا عن البحرين، أو دعمًا لسوريا ولبنان واليمن خلال سنوات ما يسمى (الربيع العربي)، أو مواقفها الإسلامية في أفغانستان، والبوسنة والهرسك وغيرها. أم أبدأ حديثي بتماسك لُحمتنا السعودية وقوة وحدتنا الوطنية، التي أفشلت بصلابتها كل المؤامرات السياسية، وأسقطت على حدودها كل مشروعات المد القومي البغيض من ناصرية شيوعية وبعثية، كما كانت عصية على موجات الإرهاب الدموي والتطرف الديني، واليوم تتجدد دماء هذه اللحمة بترسانة إعلامية متمثلة بمغردين سعوديين على منصات التواصل الاجتماعي دفاعًا عن كل ما هو سعودي، الإنسان والكيان. أم أبدأ حديثي بالتنمية الشاملة التي تعيشها بلادنا - بفضل الله ثم قيادة رشيدة - وفي إطار رؤية طموحة (رؤية السعودية 2030)، التي حققت كثير من مستهدفاتها قبل أوانها، وعززت من قوة الاقتصاد الوطني، ودفعت باسم السعودية في مراتب متقدمة بالمؤشرات العالمية، فضلًا عن المشروعات العملاقة: (نيوم - القدية - المربع الجديد - بوابة الدرعية - المسار الرياضي - البحر الأحمر - حديقة الملك سلمان - مسار مكة - العلا - الطاقة المتجددة، وغيرها)، والأحداث العالمية الكبرى التي سوف تحتضنها المملكة - بمشيئة الله - خلال السنوات العشر المقبلة، مثل: (إكسبو 2030)، و(كأس العالم 2034م). أم يكون حديثي عن مكانتها العالمية وحضورها الدولي المهيب في المحافل والتجمعات الدولية، ومواقفها المؤثرة إيجابًا في الأزمات والصراعات العالمية، أو عن قيادتها لمنظمة (أوبك) وشراكتها بـ(أوبك بلص) لكونها لاعبا رئيسا في أسواق الطاقة، أو عضويتها في مجموعة العشرن G20، وهي مجموعة الدول التي تُسهم بـ(80 %) من اقتصاد العالم. أو دعمها للمشروعات التنموية للبلدان المتعثرة عبر الصندوق السعودي للتنمية، أو تأثيرها الكبير في المنظمات والهيئات العربية والإسلامية والدولية. هنا أقف وأقول: إذا كانت الحيرة بماذا أبدأ حديثي فكيف بالحديث نفسه! فالحديث عن المملكة العربية السعودية يحتاج مجلدات، ومساحات، وساعات طويلة من اللقاءات فأنت تتحدث عن شبه قارة وليست مجرد بلد.