تعد زيارة الخليفة عبد الله بن هارون الرشيد، المعروف بالخليفة المأمون، إلى مصر سنة 217 هجرياً 832 ميلادياً هي الزيارة الأشهر على الإطلاق؛ نظراً لما ارتبط بتلك الزيارة من أحداث جسام رغم أنها جاءت قبيل وفاة المأمون بنحو عام تقريباً، وكونها لم تزد على شهرين من الإقامة في مصر. وعلى الرغم من ذلك كانت تلك الزيارة كافية لإعادة الأمن والاستقرار للبلاد بعد ثورة كانت تلوح في الأفق نتيجة الصراعات القبلية المستمرة وفساد شؤون الإدارة. الأمر الذي أدى إلى تدهور الأوضاع السياسية والإدارية في مصر ومنع وصول خراجها السنوي إلى الخلافة العباسية في بغداد. وكانت مصر هي أغنى الولايات في الخلافة، وانقطاع خراجها كان بمثابة محنة شديدة. قام المأمون بنفسه بالقضاء على النزاعات القبلية وتنظيم شؤون البلاد والعباد وعمل على نظام مالي وإداري محكم، يضمن تنمية موارد البلاد ووصول الرواتب والأموال لمستحقيها، وفي الوقت ذاته يضمن عودة وصول خراج مصر إلى بغداد.
ولكن ما يهمنا من تلك الزيارة حقاً هو الجانب العلمي والثقافي؛ حيث إن من المعروف أن الخليفة المأمون كان من أكثر الخلفاء العباسيين علماً وثقافة واهتماماً بأمور العلم والعلماء وهو مؤسس بيت الحكمة في بغداد الذي سيكون سبباً لتلك النهضة العلمية الإسلامية في العصر العباسي والذي ستطول نتائجه البشرية كلها وليس العالم الإسلامي فقط.
زار المأمون معالم مصر الأثرية. وقد ثبت أنه وصل إلى هضبة الجيزة وشاهد الأهرامات المعجزة المعمارية الخالدة. ولأن الأدلاء المصاحبين له في تلك الزيارة لم يقدموا له أجوبة شافية عن حقيقة الأهرامات ومَن بناها ولماذا تم بناؤها، وقبل كل ذلك كيف تمكنوا من بناء تلك الأهرامات العملاقة ورفع أحجارها، ولذلك قرر المأمون عمل مدخل يسمح للإنسان بالدخول بسهولة إلى داخل الهرم الأكبر، هرم الملك خوفو. كان من الواضح أن المأمون يبحث عن إجابات لكل الأسئلة التي تدور في رأسه، وليس فقط رغبة في الحصول على الكنوز المخبأة بداخل الهرم كما يزعم بعض المؤرخين.
يتبارى الرحالة العرب والمؤرخون في وصف ما حشده المأمون من رجال وحديد ونيران وبراميل الخل والزيت وألواح الخشب من أجل إتمام هذا العمل الذي أدى إلى عمل مدخل لا يزال مستعملاً إلى يومنا هذا في زيارة هرم خوفو من الداخل ويعرف باسم «مدخل المأمون».
تفقد المأمون مدينة الفسطاط ومنازلها ومصانعها المنتشرة التي كانت فخر صناعات ورق البردي، والزجاج والخزف، ومسابك الحديد والنحاس، ومصانع السلاح والدروع وغيرها. كانت الفسطاط قد اتسعت ونمت وسكنها خيرة الصناع والفنانين في مصر. ولكن ما استحوذ على اهتمام المأمون حقاً كان عمارة مصر ومساجدها ومصانعها. وقبل كل ذلك كان نيلها وأرضها الخصبة وأهل مصر الأشداء في العمل وفلاحة الأرض.
كانت مصر ولا تزال هي جنة الله في الأرض إذا ما صلح أمر شعبها لا تكاد تقع تحت يدي محتل حتى تنهض وتلفظه مهزوماً مدحوراً. انطبق عليها القول بأنها تمرض لكنها أبداً لا تموت. رسم المولى عز وجل حدود مصر منذ بدايتها في التاريخ، لذلك لم يحدث وأن تعرضت تلك الحدود إلى النقصان، على أرضها المباركة كلم الله نبيه موسى، ومن قبله جاءها خليل الله إبراهيم وعاشت بها حفيدة الصديق يوسف عليه السلام، ومن بعد موسى لاذت بها مريم العذراء تحمل وليدها السيد المسيح عيسى عليه السلام. ولكل ما تقدم فالحمد لله على نعمة وجود مصر.