كيف يتم تحويل العقل البشري إلى سلعة؟ وكيف تعمل الخوارزميات على استغلال التركيز لتحويله إلى أرباح مالية لأصحاب المِنصات الاجتماعية؟ في العصر الرقمي تأتي الأرقام المالية أولاً دون رقابة أو قوانين تحمي من الآثار الخطرة التي تتركها وراءها. نتحدث عن مُصطلح انتشر أخيراً في الصحف العالمية وهو «اقتصاد الانتباه»، ويقصد به جَرّ الانتباه البشري إلى دوامة الإدمان على الفيديوهات القصيرة، التي تُشتت التفكير وتُدخل العقل في حرب خفية ضد أهم ميزة فيه، وهي «التركيز». هنا بدأ الفرد يشعر بأنه وقع دون أن يدري في فخ مُحكم لا هدف له سوى إبقاء المُتابع لساعاتٍ أمام شاشة مِنصة، ترصد كل ما يعجبه وتحفظ مِيوله لتزيده منها كي لا يُفارقها. ولتحقيق هذا الهدف تُدرّب الخوارزميات بذكاء كي تستطيع المِنصات التباهي بعدد المتابعين وطول مدة المتابعة التي تساوي إعلانات وأرباحاً لا يُستهان بها.
لتوضيح الصورة نعود للبداية، بدأت الفيديوهات القصيرة مع مِنصة التواصل الاجتماعي (تيك توك) ثم تنبهت باقي المِنصات إلى أهميتها الاقتصادية فكانت (الستوري والرييل) في (الفيسبوك) وتبعها (شوتز) في (ليوتيوب). فلم تعد قضية تسلية، بل تحولت إلى ظاهرة عالمية تستهلك ساعات من يوم الإنسان، وتعيد تشكيل عاداته الذهنية والعاطفية. المِنصات الاجتماعية أصبحت ميادين لمعركة شرسة بين شركات التكنولوجيا التي لا تهدف إلى تثقيف المُستخدم، بل أسره لأطول فترة مُمكنة أمام الشاشة. هذا النمط الاستهلاكي لم يَمُر مُرور الكِرام على الباحثين والصحفيين، فقد حذر عدد من المفكرين من مَخاطره، واعتبروه إدماناً لا يقل خطورة عن المخدرات الرقمية الأخرى.
في كتابها الشهير (عصر رأسمالية المراقبة) توضح الكاتبة شوشانا زوبوف أن المِنصات الرقمية تحوّل انتباه الفرد إلى سِلعة في سوق الإعلانات الرائجة. الفيديو القصير ليس بريئاً، بل أداة لإنتاج بيانات تُباع للمُعلنين. كل نقرة، كل ثانية مُشاهدة، تصبح مادة لتحسين خوارزمية تَعرف ما يُثير فضول المُتابع وتُعيد تقديمه إليه في دوامة لا تنتهي. كشف تريستان هريس وهو موظف سابق في غوغل ومؤسس مركز (الوقت الجيد)، كشف في وثائقي خاص أن المِنصات لا تتنافس على الجودة، بل على «زمن الشاشة».
لذلك تعتمد على التمرير اللانهائي والتوزيع المَدروس للمشاعر التي تتقلب أمام المتابع (ضحك، دهشة. حزن) لإبقائه متوتراً عاطفياً بين المُتناقضات، كما أن تدريب العقل على سرعة الانتقال من موضوع لآخر تفقده أهم ميّزاته: قوة التركيز، والصبر على القراءة الطويلة، والتَمعُّن في التفكير العميق. تَطوّر الخوارزميات في سِباق استغلال العقل البشري وصل حد التنبؤ، وتوقع ما يَشد المُتابع ويُثير عاطفته دون اكتراث للعواقب الوخيمة على قوة التفكير.
وبحسب تقرير من شركة (DataReportal) لعام 2024 يقضي المستخدم العادي أكثر من 95 دقيقة يومياً على (تيك توك). وإذا جمعنا الوقت على المنصات المنافسة، يصبح المتابع أسير الشاشة لساعاتٍ طويلة يومياً. يحق لنا أن نسأل عن الأثر الذهني لهذه الظاهرة، ففي مُعظم أراء المُحللين تؤدي إلى تشتت فكري وعقل مُبعثر. الكاتب نيكولاس كار في كتابه (السطحية).. ماذا يفعل الإنترنت بعقولنا؟ يصف ضعف التركيز العميق الذي زاد في الاعتماد على المحتوى السريع بقوله «العقل يعُاد تشكيله ليتعامل مع جرعات صغيرة من المَعرفة بدل التفكير الطويل أو القراءة المُستمرة. النتيجة تكون ضعف الذاكرة، قلة الصبر على المَهام الطويلة، وتراجع القدرة على الإنتاج المَعرفي أو الإبداعي. أما الكاتب كال نيوبورت في كتابه (التقليل الرقمي) فيؤكد أن هذه المِنصات تقتل العنصر الأساسي لأي إنجاز فكري أو مِهني عميق.
ولو نظرنا إلى الأثر العاطفي وهذا التذبذب بين الحزن، والفرح، والضحك، والدهشة في ثوانٍ مُتلاحقة فهنا يكمن البُعد الأخطر، تدريب العقل على الانتقال السريع بين المُتناقضات، وهذا التذبذب العاطفي يُرهق الجهاز العصبي، ويجعل الإنسان أقل قدرة على الصبر والاستقرار الانفعالي. علماء النفس أشاروا إلى أن هذا النمط من الاستهلاك يرتبط بارتفاع مُعدلات القلق والاكتئاب بين المراهقين. خصوصاً الفتيات اللواتي يتأثرن بمقاطع المقارنة الاجتماعية والمثالية الزائفة.
وصفت الصحفية جيا تولنتينو في (The New Yorker) بأن المنصات مُختبر لإنتاج العزلة، حيث يظن الفرد أنه يعيش تواصلاً اجتماعياً بينما هو مُحاصر في فقاعة شخصية تحددها الخوارزميات.
مما سبق ومن أراء المفكرين التي تُحّذر من إدمان الفيديوهات السريعة وآثارها الخطرة على العقل البشري، والتوازن العاطفي وجب الاهتمام والسيطرة على هذا التيار الجارف الذي أكثر ما يكون ضرره على الأطفال والمراهقين. إذ استمرت هذه الموجه دون مقاومة وتوعية قد نواجه مستقبلاً تصبح فيه الأجيال الصاعدة أقل قدرة على التركيز في الدراسة والعمل. وتصبح العلاقات الإنسانية أكثر سطحية يغلب عليها التفاعل الرقمي الوهمي لا الواقعي الحقيقي. حتى الخيارات الفردية تصبح مُسيّرة من قبل خوارزميات تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.
نحن اليوم، أمام قضية تستحق أن نقف عندها. ولعل بادرة ترستان هاريس في مركزه الذي أنشأه لإعادة تأهيل العقل وتدريبه على التركيز، تكون قدوة لمراكز مشابهة لإنقاذ الكثير من دوامة الوقوع في سباق مِنصات تتنافس على استغلالهم.
اقتصاد الانتباه.. واستغلال العقل البشري
مواضيع ذات صلة