التاريخ في جوهره أوراق ثقيلة صامتة، لكنه حين يعبر إلى الشاشة، يتحول إلى دمٍ يسيل في العروق، وإلى وجوهٍ تحدّق بنا من قلب العتمة، فمن تحت وهج الضوء، يولد الماضي من جديد، لا كما كان بل كما أرادت العدسة أن تراه، وكما أراد الخيال أن يصوغه، فالسينما لا تنقل التاريخ كما ينقله المؤرخون، بل تعيد كتابته بلغة أخرى لغة العين والروح في لحظةٍ واحدة، فهي قادرة على أن تمحو ذاكرةً كاملة لتعيد بناءها من جديد، أو تمنح حدثاً منسياً حياة لا تنطفئ، من بين آلاف الوقائع، تختار لقطةً واحدة، أو صوتا واحدا بين ملايين الأصوات، أو تنتخب صرخةً أو أغنية، ثم تقدّمها للجمهور على أنها الحقيقة، فهي في السينما - وأعني الحقيقة - ليست ما جرى، بل ما أُعيد خلقه في الظلال والضوء، ولعل أكبر مثال حي لذلك في عصرنا الحديث هو ذلك الفيلم العظيم "تايتنك" حيث السفينة الأسطورية التي كانت معجزة عصرها على مستوى معايير السلامة، ولدت في زمن البحر تحديدا عام 1912م وأبحرت أول مرة إلى نيويورك فاصطدمت بجبل جليدي في طريقها وغرقت خلال أقل من ثلاث ساعات في مياه الأطلنطي المتجمدة مع فجر 15 أبريل 1912، كان على متن الباخرة 2,223 راكبا، نجا منهم 706 أشخاص فيما لقي 1,517 حتفهم غرقا، هكذا نقل التاريخ الخبر إلينا، أي أنه حادث عابر في حياة البشر على الأرض، تلك الحياة المحفوفة بالكوارث والنهايات الحتمية آخر الأمر، فأولئك الغرقى لم يكن لهم حظ من التاريخ لولا خيال روائي وفتنة صورة ودهشة مخرج فقد نُبشت تلك السفينة من أعماق المحيط ومن قبر التاريخ معا ليعاد إحياؤها مرة جديدة عبر فيلم سينمائي كتبه وأخرجه وشارك بإنتاجه "جيمس كاميرون" وشغف به العالم منذ عرضه أول مرّة في عام 1997م ووصلت عوائده عالمياً إلى 1.8 مليار دولار أمريكي في عام 1998، ورشح لأربع عشرة جائزة أوسكار ولا زال جاذبا ومشوّقا حتى وأنت تشاهده للمرة العاشرة ربما؛ لكنّ " تايتنك" الفيلم لم يكتفِ بشغف الاهتمام والمتابعة والإعجاب بكل العاملين فيه والقائمين عليه، ولا بعوائده المالية وجوائزه الكثيرة بل إنه كما يبدو طمع حتى بالتاريخ فلم تعد "تايتنك" السفينة اليوم في مذكّرات الملاحة البحرية وكوارثها ومنجزاتها وأحلامها وخيباتها وأساطيرها، بل في ذاكرة بصرية لا ترى في تايتنك إلا عاشقين ثالثهما اللحظات الشهيّة والنهايات الخالدة، صورتهما جناحان من ريح، يقيمان في سيارة خضراء مظلّلةٍ بالضباب، يتقاسمان الدفء والبقاء فيموت أحدهما آخر البرد، هذه القصة الأسطورية العاشقة استطاعت أن تختزل تاريخ تايتنك فيها على الرغم من أنها في ذمة الحدث لم تكن -على افتراض مصداقيتها- إلا حكاية غريق واحد من بين أكثر من 1500 غريق، وحتما لكل واحد منهم حكايته وذكرياته وتاريخه لكنه مات غريقا مجهولا كما قدّر له الفن وتحديدا ضوء السينما الذي بمقدوره - متى أراد - أن يهب التاريخ من يشاء.