يتكلم وزير الخارجية في العادة ولا يكتب، لأنه لا يملك من الوقت ما يجعله يجلس في هدوء ليحرر مقالاً، ولأنه يعتمد على متحدث رسمي يقول ما تشاء الوزارة أن تقوله.
وإذا كانت الإشارة هنا إلى وزير الخارجية في الحكومة من دون زملائه من الوزراء في الحكومة نفسها، فلأن وزارة الخارجية تظل تتعاطى مع الأحداث على مدار الليل والنهار. فاختلاف التوقيت بين أركان الأرض يجعل مثل هذا التعاطي متواصلاً بغير انقطاع على مدى اليوم، ولا يعطي الرجل الجالس على رأس وزارة كالخارجية فرصة يستريح فيها قليلاً إلا بالكاد.
وقد أبى وزير خارجية مصر الدكتور بدر عبد العاطي، إلا أن يكسر هذه العادة التي تحصر التواصل مع الجمهور من جانب كل مسؤول مثله في الحديث الشفهي، ولا تمتد به إلى حدود الحديث المكتوب إلا في أقل القليل. كان ذلك عندما نشر مقالاً باسمه في صحيفة «الأهرام» تحت عنوان يقول: «مصر وغزة... حين يُستهدف مَنْ يقف مع الحق».
تذكرت وأنا أطالع مقال الوزير ما كان المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي يفعله، كلما مضى في تحرير فصل جديد من كتابه الشهير: «عجائب الآثار في التراجم والأخبار». فالجبرتي كان كلما انتهى من فصل جديد راح يراجعه، فإذا اطمأن إلى أن ما فيه هو بالضبط ما يريد أن يخرج به على الناس، كتب في آخر الفصل عبارة تقول: «الحمد لله ما نُسب إليّ صحيح».
ظاهر العبارة يوحي كأن الجبرتي كان يضعها في نهاية كلام حرَّره له شخص آخر، وهذا إيحاء غير صحيح طبعاً، فالقصد كان أن يقول المؤرخ الشهير إن ما كتبه بيده هو على وجه التحديد ما يرغب في أن يصل به إلى القارئ في زمانه، ثم في أي زمان جاء هذا القارئ من بعد.
أتصور أن معنى كهذا كان في ذهن الدكتور عبد العاطي وهو يجلس ليحرر المقال، ثم وهو يرسله إلى «الأهرام» لتنشره على قرائها في كل مكان. فموضوع المقال تكلم فيه صاحبه مراراً قبل تسجيله مكتوباً، ولكنه في لحظة أحس فيما يبدو بأن ما هو مكتوب مختلف عما هو مرئي، أو عمَّا هو مُذاع في العموم بالضرورة.
مختلف لأن الكلمة المرئية حين تخرج على جمهورها، فإنها تصل إليه كأنها رصاصة انطلقت، ولا يمكن بالتالي إعادتها إلى حيث انطلقت من جديد، ولا من الممكن الإمساك بها وهي طائرة في الهواء لتصحيح حرف فيها أو أكثر، وكذلك بالطبع كل كلمة مُذاعة عبر موجات الإذاعة. أما الكلمة المكتوبة فشيء آخر تماماً، لأنها تظل في مكانها في انتظار مَنْ يحب أن يعود إليها، وإذا عاد إليها فسوف يجدها كما هي لم يتغير فيها حرف ولم يتبدل فيها معنى.
لهذا كتب عبد العاطي، ولهذا نشر ما كتبه، ولهذا آثر أن يضع ما يحب من المعاني في حروف تبقى محفورة في مكانها لا تغادره.
فما هي يا تُرى هذه المعاني؟ ولماذا لجأ الوزير إلى الورق المنشور على القراء يبثه ما يتمنى لو وصل إلى كل قارئ في كل بيت؟ المعاني تجدها موجزة في عنوان المقال، وتجد إلى جوارها في العنوان مفارقة أرادها وزير خارجية المحروسة أن تكون حاضرة، لعل قارئ المقال يلتفت إليها فلا تفوته في زحام ما هو حاصل من حولنا.
فمنذ بدء حرب الإبادة التي تشنها حكومة التطرف في تل أبيب على الفلسطينيين في قطاع غزة بالأساس، ثم في الضفة الغربية مع القطاع، كان موقف القاهرة في وضوح الشمس، وكان الموقف ولا يزال يتلخص في أن القضية في فلسطين إذا كانت في حاجة إلى شيء محدد، فهذا الشيء هو التسوية لا التصفية بأي حال.
وعندما انتقلت حكومة التطرف الإسرائيلية من حرب الإبادة، إلى محاولة تهجير الفلسطينيين من أرضهم المحتلة، كان موقف القاهرة هنا أيضاً بالوضوح ذاته، وكان أساسه أن الأرض في القطاع إذا كانت في حاجة إلى شيء محدد أيضاً، فهذا الشيء هو التعمير لا التهجير.
هكذا كان الموقف، وهكذا كان وضوحه في الحالتين، ومع ذلك فوجئ المصريون كما فوجئ سواهم بمظاهرات تستهدف بعض السفارات المصرية، وتحاول الاعتداء عليها وعلى العاملين فيها، وكانت هذه هي المفارقة المشار إليها.
هي مفارقة لأن السبب المعلن وراء المظاهرات أن مصر تسهم في محاصرة القطاع. ولا بد أنه سبب مضحك ومحزن معاً. مضحك لأن كل المعابر التي تربط القطاع بإسرائيل مغلقة، بينما المعبر الوحيد الذي يربطه بمصر مفتوح طول الوقت. ومحزن لأن الذين خرجوا محتجين أمام بعض السفارات كانوا مصريين! ولكن إذا عرفنا أنهم ممن ينتمون إلى جماعة الإخوان فسوف تزول أسباب العجب.
من أجل ذلك جلس الوزير يكتب، ومن أجل ذلك رغب في أن يسجل أن ما جرى أمام أي سفارة مصرية لا يصبّ إلا لدى تل أبيب، ولا يسعى إلى شيء إلا إلى تضليل الناس. من أجل ذلك أيضاً سعى الوزير إلى أن يسجل بالكلمة المكتوبة أن الوساطة المصرية في القضية ليست مجرد تحرك دبلوماسي، ولكنها تعبير عن مسؤولية تاريخية والتزام قومي تجاه القضية. وقد بدا وهو يضع اسمه وصورته على المقال كأنه يقول مثلما كان الجبرتي يقوله: «الحمد لله ما نُسب إليّ في مقالي هذا صحيح».