سارا القرني
الغيرة في بيئة العمل بين الأصدقاء أو حتى بين الإخوة، ظاهرة إنسانية قد تبدأ ببساطة، لكنها إن لم تُفهم وتُحتوَ، سرعان ما تتحوّل إلى مرض صامت يأكل الروابط من الداخل.
فحين تجتمع الألفة مع الطموح، تختلط المشاعر بين الحب والرغبة في التقدّم، وبين الإعجاب والاحتياج للتفوّق. ولكن حين تتحوّل المقارنة إلى حقد، ويتحوّل الطموح إلى تمني الفشل للآخر، تفقد العلاقة معناها، وتتفكك الروح المشتركة التي كانت تجمعهم.
الغيرة في أصلها ليست شرًّا، بل قد تكون دافعًا للتطور والنمو، حين تُوجَّه نحو المنافسة الشريفة، وتُغذّى بالنية الصافية والرغبة في التحسّن الذاتي. فهي حينها تُشعل الحماس وتُوقظ الهمم، وتجعل كل طرف يُقدّر تفوّق الآخر دون أن يشعر بالنقص. ولكن الخطير أن تتحوّل إلى مقارنة مريضة، تخلق شعورًا بالتهديد من نجاح الآخر، فتبدأ بالهمس، ثم بالتحليل الزائد، ثم بالحسد، وأحيانًا بالتشكيك والتقليل من قيمة الطرف الآخر.
ومن صور الغيرة المرضية في بيئة العمل: التقليل من إنجازات الزميل، أو محاولة إحباطه سرًّا، أو تشويه صورته لدى الآخرين، أو حتى سرقة أفكاره ومجهوده. وقد ترتدي هذه الغيرة قناع الصداقة، وتظهر في صورة دعم وهمي، لكنها في الحقيقة تزرع الشك وتُسهم في خلق بيئة غير آمنة عاطفيًا.
أما الإخوة حين يدخل بينهم هذا النوع من التنافس غير النقي، فإن الرابط الذي يفترض أن يكون أقوى من أي شيء، يبدأ بالتمزّق. فنجاح أحدهم لا يُفترض أن يكون تهديدًا للآخر، بل مصدر فخر ومساندة. ولكن حين يُقابل النجاح بالصمت، أو بالتجاهل، أو حتى بالغيرة الخفية، يصبح هذا النجاح ثقيلًا، ويزرع شرخًا لا تلتئم آثاره بسهولة.
إن أخطر ما في الغيرة حين لا تُقال، حين تُكبت وتتخفّى خلف المجاملات، لأنها تنفجر لاحقًا في هيئة نفور، أو عدائية غير مبررة، أو حتى انسحاب عاطفي مفاجئ. وحين لا تُواجه، تتحول إلى عادة فكرية، يُقاس بها كل نجاح وكل خطوة، ويصبح الشعور الدائم أن الآخر يأخذ مكانًا لا يستحقه.
العلاقات السليمة لا تُبنى على التشابه، بل على الاحتواء. أن ترى نجاح غيرك دون أن تشعر بالتهديد، أن تُصفّق له دون أن تنكسر داخليًا، أن تتمنّى له المزيد وأنت تعمل على نفسك، هذه هي الغيرة الناضجة. الغيرة التي تتحوّل إلى دافع، لا إلى هدم.
فالمنافسة الشريفة لا تُفرّق، بل تُنمّي. وهي النوع الوحيد من الغيرة الذي يستحق أن يُرحّب به في قلب الإنسان، لأنها تُقرّب ولا تُقصي، وتبني ولا تهدم.
الوعي بهذه الدائرة الدقيقة بين الطموح والغيرة، بين الأخوّة والمنافسة، هو ما يجعل العلاقة تستمر بثبات، ويجعل القلب يحتفظ بنقائه رغم اختلاف المسارات.