: آخر تحديث

الهُويّات حين تقتل أصحابها

3
3
3

علي عبيد الهاملي

لا أحد يولد على الهامش، فلكل إنسان في هذه الأرض خريطةٌ تُرسم له منذ صرخته الأولى. خريطةٌ تبدأ باسمٍ يهمس به الأب، وبلدٍ يُسجَّل فيه المولود، ودينٍ يتلقن تعاليمه قبل أن يعي، ولغةٍ تخرج من فمه قبل أن يعرف كيف يكون النُّطق.

الهُوية تُشكّل الإنسان، نعم. لكنها لا تكتفي بذلك. إنها تسوقه أيضاً، تُرسم له المسارات، وتُلقي عليه الظلال، وتُهيّئ له مصيره. فقد يولد المرء في بيئة تُعلي من شأنه، لا لشيءٍ فعله، بل لأنه يحمل جوازاً بلونٍ معينٍ، أو يتكلم بلسانٍ معينٍ، أو يعتنق ديناً أو مذهباً تتصدّر قائمته الأكثرية. وقد يولد آخر ليكتشف، وهو لم يزل غضّاً، أن انتماءه سجنٌ يحبسه، لا بطاقة تعريفٍ تعرّفه.

لقد جاءت العولمة والانفجارات الرقمية لتقول إن الهوية لم تعد فقط ما نكتبه في بطاقة الأحوال، بل أصبحت فضاءً متشعباً، تتداخل فيه المعتقدات، واللغات، والانتماءات.

هنا تكمن خطورة الهوية حين تتحول من رابط إلى سيف، ومن جسر إلى خندق، حين تتحول إلى معيار للتصنيف، بدل أن تكون وسيلة للفهم والانفتاح. كثيرٌ من الصراعات في العالم اليوم ليست سوى حروب هويات، تتخفّى خلف شعارات الدين أو الطائفة أو القومية. وبدل أن تكون الهوية حمايةً للذات، صارت أداةً للانقسام والعنف والنبذ.

في خضم هذا الاشتباك الهوياتي، تتعقّد علاقة الإنسان بالآخر. فحين يرى نفسه «نحن» ويرى الآخرين «هم» يبدأ الحذر، ويبدأ التوجس، ويبدأ التصنيف. يُصبح كل اختلاف تهديداً، وكل مخالفة خطراً، ويغيب عن البال أن الآخر أيضاً يحمل هويةً، وأن الاختلاف لا يُفترض أن يعني الخلاف.

الهُوية السليمة هي التي تُعطي الإنسان ثقةً، لا خوفاً من الآخر. تُعطيه جذوراً تمتدّ، لا قيوداً تُقيد، وهي التي تُعلّمه أن الانتماء لا يعني العداء، وأن الحب لا يحتاج إلى عدو كي يثبت نفسه.

نعود مرة أخرى إلى كتاب «الهويات القاتلة» للمفكر اللبناني الفرنسي أمين معلوف، وهو عمل تأملي عميق نُشر أول مرة عام 1998 باللغة الفرنسية. يتناول الكتاب موضوع الهوية الفردية والجماعية، وأسباب تحولها إلى أداة للقتل والصراع، بدلاً من كونها مصدراً للثراء الإنساني والتنوع. الهوية.

عندما نتأمل ما يجري حولنا من صراعات وحروب، نكتشف أن هناك هوياتٍ تقتل أصحابها، وهذا ضد فكرة الهوية التي من المفروض أن تحمي صاحبها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد