: آخر تحديث

الذكاء الاصطناعي كقوة ناعمة: إعادة رسم خرائط النفوذ

2
2
2

العقود السابقة، كان يقاس نفوذ الدول بقدرتها العسكرية، وتحالفاتها الإستراتيجية، ومساحتها الجغرافية. أما اليوم، فقد دخل عنصر جديد على خط التأثير الدولي، عنصر لا يُرى ولا يُمس، لكنه يصوغ توجهات المجتمعات ويعيد رسم موازين القوة العالمية... إنه الذكاء الاصطناعي.

لقد تحول الذكاء الاصطناعي من مجرد تقنية إلى أداة قوة ناعمة قادرة على التغلغل في عمق الوعي العام، ولم يعد التأثير الثقافي والدبلوماسي يعتمد فقط على الإعلام أو التعليم أو اللغة، بل أصبح الذكاء الاصطناعي لاعباً أساسياً في تشكيل المواقف، وتحديد السلوك السياسي، وتعزيز النفوذ من دون الحاجة لاستخدام القوة التقليدية.

القوة الناعمة، كما صاغها الباحث جوزيف ناي، تقوم على القدرة على الإقناع والجذب، بدلاً من الإكراه واليوم، يستخدم الذكاء الاصطناعي هذه القاعدة ليعيد صياغة مفاهيم التأثير فمن خلال المنصات الرقمية، ومواقع التواصل، والتطبيقات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي في تقديم المحتوى، بات من الممكن توجيه الرأي العام والتأثير على المزاج الشعبي بطرق غير مباشرة لكن فعالة.

من يتابع مقاطع الفيديو التي تظهر له، أو المقالات التي تقترح عليه يومياً، قد لا يدرك أن الذكاء الاصطناعي هو الذي يختار له هذه المحتويات، وهنا تكمن القوة الناعمة للذكاء الاصطناعي في التأثير من دون أن يشعر المتلقي بأنه تحت تأثير.

الذكاء الصناعي وإعادة رسم خرائط النفوذ
الولايات المتحدة، تعتبر من أبرز الدول التي توظف الذكاء الاصطناعي ضمن أدوات سياستها الخارجية، حيث تصدر أنظمة وتقنيات تعتمد عليه لتعزيز حضورها العالمي والصين بدورها تسعى لنشر نموذجها القائم على الذكاء الاصطناعي المرتبط بالرقابة والتنظيم، في حين تستخدم روسيا الذكاء الاصطناعي في دعم إستراتيجيات المعلومات الموجهة.

هذه الدول الكبرى لا تخوض صراعاً تقليدياً، بل تخوض سباق ثورة ناعمة تكمن في الذكاء الاصطناعي هدفه السيطرة على مساحات أكبر من العقول، وليس من الأرض فقط.

لقد تغير تعريف النفوذ الدولي، فبدلاً من السيطرة على المضائق والموانئ، أصبح النفوذ يقاس بمدى قدرة الدولة على التأثير في الفضاء الرقمي العالمي. الذكاء الاصطناعي أصبح أداة لبناء صورة الدولة، ونشر ثقافتها، وتعزيز مصالحها من خلال تقديم نموذج جذاب يبنى على التحليل، والتوجيه، وتكييف الرسائل مع كل جمهور على حدة.

بالنسبة لدول الخليج، يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة إستراتيجية لصياغة هيمنة ناعمة جديدة تتناسب مع مكانتها الاقتصادية والثقافية فمع وجود استثمارات ضخمة في مجالات التقنية، ومبادرات وطنية متقدمة في الذكاء الاصطناعي، يمكن لدول الخليج أن تنشئ منصات إعلامية وثقافية توصل صوتها إلى العالم، بعيداً عن القوالب الغربية الجاهزة.

لكن التحدي يكمن في أن تكون هذه المشاريع مبنية على رؤية مستقلة، وأن تخدم مصالح المجتمعات المحلية قبل أن تكون مجرد نسخ من تجارب عالمية مستوردة.

إذن الذكاء الاصطناعي ليس تقنية فقط، بل أداة قوة ناعمة، تعيد ترتيب العلاقات بين الدول، وتمنح النفوذ لمن يحسن استخدامها وفي زمن تتراجع فيه الجغرافيا أمام التكنولوجيا، لم تعد الدول بحاجة لاحتلال أراض لتكون مؤثرة، بل يكفيها أن تكون حاضرة في عقل المستخدم وشاشته اليومية.

إنه عصر جديد من النفوذ... لا يمارس من خلال الجيوش، بل من خلال الذكاء الاصطناعي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد