: آخر تحديث

ترياق الروح

3
3
3

د. باسمة يونس

منذ أقدم العصور، آمن الفلاسفة والحكماء بأن الكتب لا تُقرأ لمجرد التسلية أو التعلم، بل لتهذيب النفس ومداواة الجراح غير المرئية، فمن منّا لم يشعر أن شخصية في رواية تعرفها أكثر مما تعرف نفسها؟ من لم يقرأ مقطعاً وأوقفه فجأة لأنه شعر بأنه كُتب له وحده؟ ألا يجعلنا ذلك نؤمن بقدرة القراءة على الشفاء؟ ولكن هل تكون القراءة وحدها كافية لعلاج الأمراض النفسية؟ في الواقع قد نبالغ إن صدقنا ذلك لأن القراءة ليست علاجاً سحرياً، لكننا لا نستطيع إنكار أثرها الإيجابي في النفس وفي بعض اللحظات، هي الأمل ذاته.ومع تطور العلوم النفسية والاجتماعية، ظهر ما يُعرف اليوم ب”العلاج بالقراءة” كأحد المسارات التي تثبت يوماً بعد آخر أن الكلمة يمكن أن تكون دواء والكتاب جسراً نحو التعافي. لكن هل يمكن للكتب أن تحل مكان الطبيب أو الدواء؟ وما هي التجربة الإنسانية المعقدة التي قد تجعل من القراءة أداة علاجية ممكنة؟من الطريف أن أولى المكتبات في التاريخ مثل مكتبة الملك آشور بانيبال في نينوى كتب على واجهتها عبارة «هذه هي دار علاج الروح» تماماً كما قد يكتب على أبواب العيادات الطبية. وفي العصور الإغريقية، كان معبد الإله أسكليبيوس، إله الطب، يضم قاعة مخصصة للقراءة ضمن برنامج الشفاء.وفي القرن العشرين، تم توزيع الكتب على الجنود المصابين خلال الحربين العالميتين كوسيلة لتخفيف الصدمات النفسية، ولاحظ الأطباء نتائج إيجابية حينها، فقد خفّ التوتر، وتحسن المزاج، وسهل الحديث عن المشاعر، فالكلمات قد لا تداوي الجسد، لكنها تسهم بفاعلية في علاج النفس.والعلاج بالقراءة عملية تفاعلية تحفز المشاعر بين القارئ والنص وتسمح للإنسان بمواجهة نفسه، من خلال شخصيات وقصص وسيناريوهات قد لا تشبهه تماماً، لكنها تمسه بعمق وخصوصاً في لحظات الانكسار، فقد يجد الإنسان صوته الضائع في رواية ما، وتتحول القراءة إلى اعتراف غير مباشر، وجلسة علاج لا يطلب فيها أحد تفسيراً ولا يُسجّل فيها الملاحظات.ويسهم العلاج بالقراءة في عملية التطهير العاطفي مع تماهي القارئ مع معاناته الشخصية، من خلال بطل رواية ليبدأ بتحليل ذاته واستيعاب مشكلاته وصولاً إلى مرحلة التطمين، فالكتب تمنحنا شعوراً بأننا لسنا وحدنا، وأن آخرين مروا بتجارب مشابهة والقصص تحفزنا داخلياً على التغيير والنهوض.وأكدت الأبحاث أن القراءة المنتظمة تقلل من مستويات القلق والاكتئاب، وتساعد على تحسين جودة النوم، وتخفف من الشعور بالوحدة، لاسيما لدى كبار السن.وتتبنى اليوم بعض المدارس والجامعات والمراكز الصحية حول العالم برامج متخصصة تعتمد على القراءة كجزء من العلاج النفسي، خصوصاً لاضطرابات القلق الاجتماعي أو الاكتئاب الطفيف، واضطراب ما بعد الصدمة.وقد بدأت مكتبات عالمية بالفعل مثل مكتبة “ويلكوم” في لندن، تقديم برامج علاجية منظمة بالكتب بالتعاون بين أطباء نفسيين وأمناء مكتبات لاختيار كتب تُناسب حالة المريض. وظهر أيضاً ما يُعرف بأطباء المعالجة بالقراءة في بعض العيادات الحديثة.وتزداد أهمية العلاج بالقراءة في عصر تزداد فيه العزلة الرقمية والضغوط النفسية. ويمكن للذكاء الاصطناعي اليوم تخصيص الكتب بحسب المشكلات النفسية، بل وإنتاج محتوى سردي يتماشى مع نمط كل قارئ ومزاجه.لكن التحدي الكبير أن العلاج بالقراءة لا يمكن فرضه أو تعميمه، فلكل نفس طريقتها الخاصة إلى الشفاء، وما يلهم إنساناً قد لا يحرك ساكناً في قلب آخر.وتتطلب بعض الحالات النفسية تفاعلاً مع مختصين أو تدخلاً دوائياً لكن حتى في أسوأ الحالات لا تتسبب القراءة بأي ضرر، بل تشكل أرضية مشتركة لبناء الوعي بالذات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد