مكرم رباح
«الزمن لا ينتظر أحداً»... مَثلٌ يختصر بدقة المأساة السياسية للجمهورية اللبنانية التي لا تزال تتخبط في عجزها المزمن، فيما تشهد المنطقة من حولها تحولات كبرى.
رغم تفاقُم الانهيار، يُصرّ لبنان على المراوحة مكانِه، رافضاً اتخاذ خطوات جريئة لإنقاذ نفسه، حيث تعزف بعض الأطراف المؤثرة في الدولة عن تنفيذ حتى أبسط الإصلاحات المطلوبة.
وقد تجلّى هذا الجمود بوضوح في الزيارة الأخيرة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى بيروت.
كانت الزيارة، من الناحية النظرية، بمثابة فرصة لإحياء السيادة اللبنانية، من خلال الدعوة إلى نزع سلاح جميع الميليشيات غير الرسمية، بَدءاً من الفصائل الفلسطينية وانتهاءً بـ «حزب الله»، لا سيما أن قَرارَيْ مجلس الأمن 1559 و1701، اللذين وافق عليهما لبنان، ينصان على ذلك صراحة.
لكن ما صدر لم يتجاوز إعلاناً مشتركاً غامض المضامين، إذ يزعم أن الفلسطينيين، الذين لا يَعترف معظمهم بشرعية عباس، سيتخلّون عن سلاحهم من دون أي آلية تنفيذية أو جدول زمني.
والأسوأ من ذلك، يكمن في إشارة كتلة «حزب الله» النيابية إلى لقاءات «ودية وإيجابية» تعقدها، فيما يغيب ملف سلاح الحزب عن النقاش الجدي بالكامل.
في سياق مختلف، قد يُعد ذلك تهاوناً سياسياً. لكن وسط التحولات الإقليمية العميقة، يُصبح الصمت تواطؤاً.
ففي سوريا، تعود دمشق تدريجياً إلى الحظيرة الدبلوماسية العربية رغم الكارثة التي خلفتها الحرب. وعقب رفع إدارة الرئيس دونالد ترامب للعقوبات، وعودة انخراط الدول العربية في شؤونها، تبدو سوريا وكأنها تَسلُكُ مساراً أكثر وضوحاً نحو التعافي المالي والسياسي مقارنةً بلبنان، رغم وقوفها على أنقاضها.
أما لبنان، فلا يزال في حيرةٍ من أمره: معزول دبلوماسياً، ومنهار مالياً، ومفكك سياسياً. لقد أوضحت العواصم المعنية بالشأن اللبناني، وعلى رأسها واشنطن والرياض، أن طريق الإنقاذ يمرّ حصراً عبر تفكيك البنية العسكرية لـ «حزب الله» وتجفيف موارده غير المشروعة، من تبييض الأموال وتهريب المخدرات، إلى الأنشطة الاقتصادية غير القانونية. وقد كررت المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس هذه الرسائل بجلاء، وقد تُجَسِّد زيارتها المرتقبة الفرصة الأخيرة للبنان قبل أن يدخل عزلة دائمة.
عِوضاً عن تناول هذه الحقائق ضمن خطة وطنية موحدة، اختارت الدولة عدم الرد على مهاجمة رئيس الحكومة نواف سلام، وهو أحد القلائل الذين يمتلكون رؤية سيادية واضحة.
فقد أكد سلام، خلال قمة الإعلام في دبي وخلال مناسبات أخرى، أن الدولة اللبنانية لا يمكن أن تتعايش مع البنية العسكرية الموازية لـ «حزب الله»، فقوبلت مواقفه بهجوم شرس من إعلام الحزب، بينما التزم بعض أركان الدولة الصمت، لا بل هاجموا مواقف رئيس الحكومة.
لكن أزمة لبنان أعمق من قضية السلاح. إنها أزمة وعي مُجتمع يعيش على أوهام «العلامة التجارية اللبنانية»، من السرية المصرفية إلى سحر الساحل ومنحدرات التزلج. في حين أن العالم يتقدم فعلياً ولبنان يتَخَلّف عنه.
ها هي دول الخليج تستثمر في سوريا بعد الحرب، والجهات المانحة الدولية تدير ظهرها لبيروت التي أخرجت نفسها من المعادلة.
والمفارقة هي أن هذه العزلة لم تُفرض على لبنان، بل اختارها بنفسه. فالإصلاحات مؤجلة، والحوكمة غائبة، والبعض يعيش على حنين مَرَضي، إلى ماضٍ لن يعود.
وفي مشهد مشرقي جديد يتشكّل، من بغداد إلى الرياض ودمشق، لا مكان للبنان على الطاولة. أما ما يزيد المأساة مرارة فهو أن لبنان كان يتبوأ يوماً ما دوراً أساسياً في المنطقة الإقليمية.
عام 2002، انطلقت من بيروت مبادرة السلام العربية. واليوم، بينما تحيي السعودية هذه المبادرة في سياقات تفاوض أوسع، ألقى اللبنانيون بها في سلة النسيان.
ما نشهده في أيامنا هذه ليس مجرد فشل على صعيد السياسة الخارجية، بل تَنَصّل كامل من المسؤولية الوطنية.
إن تغيير المسار يتطلب قيادة تتمتع برؤية واضحة وبشجاعة المواجهة. على لبنان أن يستعيد سيادته لجهة التصدي لسلاح «حزب الله»، ويُطلق إصلاحات جَذرية، ويستعيد الثقة الدولية. عندها فقط يمكن للبنان أن يطمح لتولي دور مستقبلي فعلّي في المنطقة.
حتى تحقيق ذلك، سيواصل بعض أركان الدولة تقديم أنفسهم كـ«ضامنين للاستقرار»، وفي مهاجمة كل صوت يطالب بتغيير حقيقي. لكن في الواقع، لبنان لا يكتفي فقط بأن يفوته قطار الإنقاذ، بل إنه يرفض فكرة بلوغ محطة القطار.
الزمن لا ينتظر أحداً. ولبنان، على الأرجح، لن يجد المدّ في متناوله بعد الآن.