: آخر تحديث

الطواف حول الكعبة أم الطواف حول المصالح؟

3
3
4

محمد ناصر العطوان

في الأيام الماضية، تداول بعض الناشطين مقطعاً لشخص يتساءل عن سبب إقبال ملايين المسلمين على أداء العمرة في رمضان، مُعارضاً بين إنفاقهم – الذي قد يتجاوز ألف دولار – وبين معاناة إخواننا في غزة، مدعياً أن الأُولى «نافلة» والثانية «فرض» وأن الأَولى صرف هذه المبالغ لأهل غزة، ومتخذاً من ازدحام الحرمين دليلاً على «خذلان الأمة»!

عزيزي القارئ، رغم أن هذه المقاربة تبدو في ظاهرها أنها تراعي فقه الأولويات، إلا أن هذا الطرح يحوي مغالطات تحتاج إلى توضيح، وتعميمات تحتاج إلى تمييز.

أولاً: لماذا يُخَصص النقد لـ 3 ملايين معتمر؟ يستهدف الخطاب 3 ملايين معتمر في رمضان، لكنه يغفل عن سؤال جوهري وهو لماذا لا يُوجَّه النقد أصلاً إلى مليار و900 مليون مسلم غير معتمر؟! فإذا كان الإنفاق على العمرة – في رأيه – يُشكِّل إشكالية أخلاقية، فلماذا لا نناقش أولاً أولئك الذين ينفقون أموالهم على الترف والسفاهات والمنتجعات والبرندات والكافيهات؟!!

وفقاً لتقارير الثروة العالمية، يوجد في الدول الإسلامية ما يزيد على 700 ألف مليونير، ينفق كثير منهم ملايين الدنانير والدراهم والجينهات والليرات والريالات على فنادق الدرجة الأولى، وسيارات الرفاهية، والقصور الفاخرة، والسفر الترفيهي! فلماذا لا يكون الحديث عن تحويل جزء من هذا الإنفاق الضخم – وليس إنفاق العمرة المتواضع نسبياً – لإنقاذ غزة؟

ثانياً: افتراض أن المعتمرين لم يتبرعوا لغزة مغالطة غير مبررة!

كيف لنا أن نعلم أن هؤلاء المعتمرين – الذين قد يكونون ادَّخروا لسنوات لأداء هذه العبادة – لم يساهموا في دعم غزة؟! أليس مِن الممكن أن يكون كثير منهم قد جمع بين العمرة والصدقة؟ أليس مِن الظلم اتهام نوايا الناس دون دليل؟ لقد تبرع المسلمون حول العالم لغزة بما يزيد على 500 مليون دولار خلال الأشهر الماضية (وفقاً لإحصاءات مؤسسات الإغاثة)، فكيف نستبعد أن يكون المعتمرون جزءاً من هذا الخير؟

ثالثاً: لماذا يُزايد البعض على المآسي؟!

السؤال الأهم: لماذا يتحول كل حدث في الأمة إلى مسرح للمزايدات العاطفية؟! لماذا نرفض أن نرى الخير في عبادة المُعتمرين، ونغمض أعيننا عن إنفاق السفهاء؟! لماذا لا ننقد – بنفس الحماس – حفلات الزفاف المليونية، أو مشاريع الترفيه المهدرة؟! لماذا تتحول طقوس العبادة وحدها إلى هدف للنقد، بينما تُمرَّر ملايين الدولارات على مباذل الدنيا بصمت؟!... تماماً وكما أذكر تلك المقاربة التي ظهرت بعد ثورات الربيع العربي وكانت تقول «لماذا نبني المساجد ونحن في حاجة للمدارس»... تشابهت قلوبهم!!

رابعاً: العمرة ليست نقيضاً لنصرة غزة!

العبادات في الإسلام ليست طقوساً مجردة، بل هي مصانع لإنتاج التقوى والرحمة: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾. والمعتمر الذي يطلب رضا ربه في الحرم، قد يكون أقرب إلى البكاء والدعاء لغزة من غيره، ثم أي تعارض بين الأمرين؟! أليس من الممكن أن يُصلّي المسلم لله في بيته، ويتصدق لغزة؟ أن يعتمر، ويدعو لإخوانه في السجود؟ أن ينفق على العمرة، وينفق على الفقراء؟ الإسلام لا يرى تناقضاً بين العبادات، بل يرى تكاملاً... ولكن التناقض في العقول القاصرة التي تعمم بجهل وترمي بلا حياء!!

نعم، نعيش كلنا ألماً لا يُحتمل لجراح إخوتنا في غزة، ونعلم أن النصرة واجبة، لكننا نرفض أن تكون محاسبة الأمة عبر اتهام عباداتها. فما قيمة أن نُحرر غزة – ونحن نتمنى ذلك من كل قلوبنا – إذا كنا سنخسر روحنا الإيمانية التي تجمعنا؟! أو نهمل شعائر أمر الله أن تعظم.

لنكن صرحاء: المشكلة ليست في ازدحام الحرم، بل في خلو القلوب... ليست في إنفاق الأموال على العمرة، بل في بخل بعض الأغنياء عن دعم الملهوفين... وليست في دعاء المعتمرين، بل في صمت العالم الظالم... فلا تقدموا مقاربات تُوقف الطواف حول الكعبة... بل أوقفوا الطواف حول مصالحكم، وانطلقوا لنجدة الغزيين بقلوبكم وأموالكم... فهذا هو التوازن الذي يرضي الرحمن... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد