دخل العالم العربي مرحلة الاستقلال بداية الأربعينات. تسلمنا بلداننا من المستعمر، بلداً بعد بلد، ورفعنا أعلاماً جديدة بألوان رمزية. وتأملنا المشهد الاستقلالي العام، ويا للروعة: في مصر الملك فاروق. شكري القوتلي في سوريا. بشارة الخوري ورياض الصلح في لبنان. وفيصل في العراق يضع خطة لبناء 400 ألف منزل خلال 25 عاماً. وفلسطين في ذروة الصراع للبناء، موحدة في الحرب، وخاسرة في الأرض.
في كل حال، كنا في البدايات، والطريق في أولها. وها نحن بعد سبعين عاماً، الطريق في آخرها، ونحن في أولها. خريطة تبكي حالها فوق الأنقاض، وأطفالها تبكيهم تحت الركام.
تخيل أننا، جميعاً، نتمنى العودة 70 عاماً إلى الوراء، ويكون لنا شيء من القانون، ولا تسرق السلطة أموال أهلها، ودولتها، ومصارفها. حضيض، كم كان الاستعمار أكثر عطفاً بنا. منذ دهر والسودان يقاتل للوصول إلى القصر الجمهوري. وصل، فوجد القصر، ولم يجد الجمهورية. ولا طعاماً وجد، وكل الذي وجده مواطنين جائعين يتبايدون. من أباد يبيدُ.
هناك نوعان من الإبادة في بلادك المستقلة: السّفاح والسفّاك. أهلي، وعدوّي. ولا تتعب نفسك في المفاضلة. العدو أكثر لؤماً، والأهلي أكثر حماقة.
قبل سبعين عاماً كان هناك أمل في كل مكان. اليوم، القوة النضالية الوحيدة في الدهس. تقصف إسرائيل، بغارة تمحو غزة، فيردّ شاب يدهس أربعة متسوقين في هامبورغ، أو ثلاثة في نيس. تماماً مثل خطف الطائرات: خطفوا أرضك، وشعبك، فتخطف الرحلة 350 إلى النمسا، ويكون للقضية دعم دولي عظيم. معنوي طبعاً. منذ 70 عاماً وهذه القضية لا تلقى سوى الدعم المعنوي. وكلما كان التوحش الإسرائيلي أشد هولاً، كان الدعم المعنوي أعلى صوتاً، وبلاغة. وكلما بدت مشاهد التغول الإسرائيلي أمام العالم، ظهر مناضل في سيارة دهساً، ويدهس في طريقه الدعم المعنوي السريع!