: آخر تحديث

طريقة عبادة مثقفي الحداثة!

9
7
7

محمد ناصر العطوان

دائماً ما يتحفنا أديب الزمان، وكاتب الحب والحنان، يوسف زيدان، بإجابات وتأملات لا تسعها العقول والأكوان، والأغرب من ذلك أن يتأثر به مثقفو الأوطان، فيكتبون عن لقائه التلفزيوني عندما سألته المذيعة: كيف تمضي وقتك في رمضان؟ أجابها قائلاً «أنا أعبد ربي بنفس أسلوب ابن سينا»، فقالت المذيعة «وهل هو مختلف عن عبادة المسلمين؟» قال لها بثقته المعهودة «إن لها مميزات خاصة، ولا أستطيع أن أشرحها لأن الأمر قد يطول»!

عبادته على طريقة ابن سينا! يا لَلعجب... صارت العبادة مهرجاناً فلسفياً نختار فيه عبادةً من قائمة «العبادات البلسمية» حسب المزاج! فهنيئاً لمن يجد في جعبة الفلاسفة اليونانيين وصفة لِصفة صلاة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم!

ابن سينا، الفيلسوف الذي لو سمع بمن يقلده اليوم لقال: «يا أخي، أنا كنت أحاول التوفيق بين العقل والنقل في زمن كان الناس يظنون أن الأرض مسطحة، لا أن تتحوّل فلسفتي إلى «تيك توك روحي» يُمارس ويصبح هوية لصاحبه!»

إن فكرة «تعديل» الفلسفة الأرسطوطالية لتتلاءم مع الدين، أشبه بمن يحاول أن يلبس الباروكة الأفلاطونية فوق عمامة الإمام الغزالي، أو كمن يحاول أن يحشر محاورات المدينة الفاضلة في «مسند» الإمام أحمد بن حنبل.

لقد حاول ابن سينا الجمع بين الحكمة والشريعة، لكن هل يعني هذا أن نُعيد إنتاج فلسفته كـ«منهج عبادة» في القرن الواحد والعشرين؟ خصوصاً أن المتكلمين المسلمين —مثل الغزالي— قديماً صاحوا: «يا فلاسفة، كدتم أن تخرّجوا لنا إلهاً يشبه «المحرك الأول» لأرسطو أكثر من خالق السماوات والأرض!»

لا شك أن ابن سينا كان عبقرياً، وأنا لا أحاول الإساءة مطلقاً لإنتاجه الفكري، لكن هل يعقل أن نتعبد اليوم بـ«برهان الصديقين» بين أذان المغرب والعشاء؟ أم أن الأمر يحتاج إلى ورشة عمل فلسفية بعد الفجر وقبل الشروق؟ أم هل ننوي صيام رمضان بدعاء «اللهم إنني نويتُ صوم رمضان إيماناً ببرهان الوجود، واحتساباً لنظرية الفيض الأفلاطونية!»

لا بأس بأن نبحث عن الحكمة في كل مكان، لكن أن تتحول الفلسفة إلى بديل عن «العبادة النبوية»، فهذا من تطرفات العلمانية التي بحثت عن بدائل للراحة النفسية والاطمئنان الواهم، والكلام الفارغ الذي فوقه كلام وتحته كلام بلا عمل أو إحسان.

فلنعبد الله كما علّمنا النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن نقرأ الفلسفة كما قرأها ابن سينا، بلا تكلف، وبقلب يعلم أن الإيمان وطرقه موجودة في القرآن والسنة وليس في كتاب الشفاء، وقد يكون أحياناً أبسط من أن يُحشى في قوالب الفلسفة اليونانية!

وما أذكره من قراءتي للفلسفة أنه ما من فيلسوف إلا وآخر عمره أيقن أنه عاش في دوامة من الألفاظ والمصطلحات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وتمنى بعضهم أن يؤمن ويعبد على طريقة العوام البسطاء.

وفي الختام عزيزي القارئ أختم بفقرة أجدها مناسبة أثناء الحديث عن مثقفي الحداثة وأدبائها، أنقلها لك من كتاب «معنى الحياة في العصر الحديث» لعبدالله الوهيبي، حيث يقول «تتسم الحداثة بارتكازها على جدلية ملتبسة تعتمد على الهدم والبناء والتحولات السريعة، والانقلابات المتكررة والتدمير الإبداعي المزمن للأشياء وللعلاقات والذوات والهويات بغية خلق بدائل جديدة دائماً، وتحقيق المواكبة لشيء غامض، يصعب تحديده أو وصفه، ففي جوهر هذه الإحساسات الحداثية عداء دائم للثبات والتمركز والرسوخ، ورغبة مستمرة بالتجريب والتغير والتنويع والتنقل، وتثوير للإمكانات والخيارات، ولوصف هذه الجدلية يستعير بيرمان - مستلهماً عبارة ماركس، في البيان الشيوعي فكرة الاضمحلال والتبدد التي تسمى الحداثة، فقدر كل ما هو صلب في الحياة الحديثة - أن يذوب ويتحول إلى أثير، فالمحرك الداخلي للاقتصاد الحديث وللثقافة التي تنبثق من هذا الاقتصاد يعدم كل ما يبدعه من بيئات مادية، ومؤسسات اجتماعية، وأفكار دينية، ورؤى فنية، وقيم أخلاقية، وذلك في سبيل الاستمرار اللانهائي في عملية خلق العالم من جديد. وهذه الاندفاعة تجر أبناء الحداثة وبناتها إلى فلكها، وتجبرنا جميعاً على اقتحام مسألة اكتشاف ما هو أساسي، وذو معنى، وما هو حقيقي وواقعي في الدوامة التي نعيش فيها ونتحرك... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.