هذه المشاعر المختلطة انتابت أغلبية، إن لم يكن كل الأصوليين، وحتى غيرهم، ومنذ مئات السنين، في ما يتعلق بحقيقة مواقفهم ومشاعرهم من «علماء» دار الإسلام الحقيقيين، من أمثال ابن سينا والرازي والفارابي وابن الهيثم والكندي وابن رشد، وغيرهم، وهؤلاء يختلفون طبعاً عن معظم رجال الدين، أو الفقهاء. فمن جهة، يمثّل هؤلاء الوجه الجميل للتاريخ الإسلامي، وكانوا طوال عقود مصدر فخر، ومثالاً على ما يمكن تحقيقه من إنجاز، متى ما توافرت حرية العمل والبحث والتصرف والقول لأي شعب. لكن من جانب آخر، مثل هؤلاء، للأصوليين، قمة الشك واختلاط المشاعر، بسبب مواقفهم وآرائهم من العقيدة الدينية، وإصرارهم على العمل في مناخ حر، ومخالفة أصحاب القوالب الجامدة، فتم تكفيرهم، جميعاً تقريباً، وكان القتل البشع نصيب أغلبيتهم، كما تعرّضت أعمالهم وآثارهم العلمية للتلف والضياع والحرق، بالرغم من كبير فضلهم على الحضارة البشرية! ومثل الموقف من هؤلاء، الحب والاحترام والتقدير، من جهة، والاحتقار والتكفير والقتل، من جهة أخرى، يكون مثالاً واضحاً على المشاعر المختلطة!
من المؤسف ملاحظة نجاح القوى الأصولية في إزالة أغلبية، إن لم يكن كل ما يمت لسيرة هؤلاء من المقررات والمناهج الدراسية لأغلبية الدول العربية، وشمل ذلك بعض الدول الإسلامية، بحث توقف تماماً إطلاق أسمائهم على المدارس والمعاهد والجامعات والشوارع. كما وصل هذا التجاهل، إلى درجة الاحتقار أحياناً، لدور المرأة، ومساهمتها العلمية، وخير مثال على ذلك تاريخ العالمة مريم الأسطرلابية، المعروفة أيضاً باسم مريم العجيلية، التي يعود إليها الفضل في اختراع آلة الأسطرلاب، وهي سورية من حلب، عاشت في القرن العاشر الميلادي، الذي مثل العصر الذهبي الإسلامي في العصور الوسطى.
اشتهرت مريم بمهارتها في تصميم وتصنيع الأسطرلابات، وهي أدوات فلكية معقدة، تستخدم في الملاحة وقياس الوقت، وهي ابنة العجيلي، صانع الأسطرلاب الشهير، ومن المحتمل أنها تعلمت من والدها الحرفة، واتقنتها. وكان سيف الدولة، حاكم حلب، أول من اعترف بفضلها، ووفّر لها وظيفة في بلاطه، وهي واحدة من القلة القليلة من العلماء والحرفيات المسلمات، وكان لأعمالها دور في تقدم المعرفة الفلكية وتقنيات صناعة الأدوات في العالم الإسلامي، وتُذكر كشخصية مهمة في تاريخ علم الفلك الإسلامي والأدوات العلمية.
أما ما ورد في أحد الكليبات، على الواتس أب، من أن وكالة الفضاء «ناسا» أقامت تمثالاً لمريم الأسطرلابية أمام مبناها، تقديراً لمنجزاتها، فغير صحيح بتاتاً، ومعلومات مضللة، بالرغم من الإخراج المتقن للكليب وبثه باللغة الإنكليزية، مع إظهار تمثالها أمام المبنى، وكأن الأمر يمثل الحقيقة، ولا أدري من المستفيد من الصرف على مثل هذه القصص المضللة؟ علماً بأن «ناسا» أصلاً لا تقيم أية تماثيل لشخصيات تاريخية خارج منشآتها، مع اعترافها بمساهمات مريم وغيرها في علوم الفلك والفضاء، والتي لا ترقى أساساً إلى وضع تمثال لها أمام مبنى وكالة ناسا للفضاء!
أحمد الصراف