يعود السؤال من جديد: هل سلك لبنان أخيراً طريق الصعود من الهوّة التي انحدر إليها؟
كانت مؤشرات كثيرة تدلّ على أن الحركة اللبنانية شهدت عام 2024 خلاصها شبه العجائبي، وذلك للمرّة الرابعة في تاريخها الحديث، بفعل استفادة الجذوة التي ما زالت حيّة في الداخل من تحولات خارجية مهمة، لا علاقة لها بها ولا تأثير لها عليها، علماً بأن كل تحوّل مجتمعي هو وليد التقاء العوامل الداخلية بالعوامل الخارجية، في مجرى التاريخ المعقّد الذي يصعب إدراكه ويستحيل ضبطه. هكذا تكرّرت نجاة الحركة اللبنانية مما يشبه العدم وزوال الأمل عام 1861 وعام 1918 وعام 2005 وعام 2024.
وبانت ظواهر تشير إلى ذلك، لا سيما وصول رئيسَي جمهورية وحكومة إلى السلطة من خارج منظومة الفساد، يحملان أفكاراً تغييرية وإصلاحية وسيادية، وتأليف حكومة واعدة بنوعية وزرائها وتطلّعاتهم، يمكن أن تحمل الأمل، في جوّ من الإرادة الغربية والدولية لتنفيذ القرارات الأممية لحصر السلاح وجعل الأمن والحرب والسلم في يد الدولة دون سواها على كل الأراضي اللبنانية وعلى كامل حدودها.
لكن... ما لبثت أن بانت صعوبات منذرة بالتصاعد. فالحكومة، على الرغم من نوعية أعضائها، ليست حكومة موالاة ومعارضة طبيعية، بل مرّة أخرى، حكومة «اتحاد وطني» وصورة مصغّرة تقريباً عن معظم القوى الأساسية في البرلمان، ما بدأ يتجلّى في تناقض مواقف أعضائها في تفسير القرارات الدولية وكيفية تنفيذها، وفقاً لتناقض القوى التي يمثلونها داخل المجتمع. بينما يتصاعد التوتر على الحدود اللبنانية - السورية، وينعكس الاضطراب الداخلي السوري على الداخل اللبناني، ويستمرّ الاحتلال الإسرائيلي لمواقع وقرى لبنانية ترافقه عمليات حربية دائمة في الجنوب والبقاع، فضلاً عن التوغّل الإسرائيلي في الأراضي السورية، وعودة الحرب البالغة العنف على غزة، وخصوصاً ما يشبه التّدرج نحو حرب إسرائيلية أميركية إيرانية، وما ستتركه من نتائج على المنطقة.
والمسألة اللبنانية؟... في الميثولوجيا الإغريقية نجد أسطورة سيزيف الذي حكم عليه الإله زوس بأن يُصعِد إلى أعلى الجبل صخرة كبيرة، لكنه ما إن يوصلها إلى الذروة حتى تتدحرج من جديد إلى الأسفل، فيعيد إصعادها، وتعود فتتدحرج، وهكذا دوالَيك إلى ما لا نهاية. وقد استوحى الكاتب الفرنسي ألبير كامو أسطورة سيزيف كرمز لعبثية الحياة البشرية. هل تصلح أسطورة سيزيف للتعبير عن المسألة اللبنانية؟ أجل، بصورة ما.
ترتكز الحركة اللبنانية إلى معطيات جغرافية وتاريخية ومجتمعية وثقافية عميقة تفسّر مدى رسوخها وحيويتها وتمايزها في عالمها. والمعنى التاريخي لهذه الحركة الذي يتضح من خلاله مسارها الصعب، هو التالي: التوق إلى تخطّي المحيط السلطوي الذي يلفّها، نحو أفق مختلف قوامه الحريّة والانفتاح ونوعية الحياة والعلم والحداثة، يقابله سعي المحيط الدؤوب لإعادة دمجها فيه. هذا هو معناها التاريخي وهذه هي جدليتها. تجهد الحركة اللبنانية، على غرار سيزيف، في إصعاد صخرتها إلى الجبل، فتستقرّ هناك إلى حين، قبل أن تدحرجها قوى المحيط إلى الأسفل، حيث يجب أن تتوافر الإرادة والقدرة والظروف الملائمة لإعادة إصعادها من جديد إلى فوق. وهكذا دواليك. وقد اشتدّت هذه الجدلية تعقيداً مع ظهور الكيان الإسرائيلي في فلسطين.
مع الإشارة إلى ظاهرتين أساسيتين في هذا السياق الدرامي:
الأولى، أن صخرة سيزيف اللبنانية ليست مجرّد صخرة، بل هي جوهرة المشرق في إنجازاتها النهضوية والمعرفية والفكرية والفنية والإعلامية والصحية والاقتصادية والوجودية، وفي خلقها نمط حياة فريداً في العالم الآسيوي، كان قبلة أنظار العرب في كل مكان، على مدى 114 عاماً، منذ ظهور الكيان اللبناني الأوّل عام 1861 إلى حرب لبنان عام 1975.
الظاهرة الثانية، أن من يدحرج في كلّ مرة صخرة سيزيف اللبنانية من أعلى الجبل إلى أسفله، ليست قوى المحيط على اختلاف أنواعها فحسب، بل أيضاً وخصوصاً القوى المجتمعية والسياسية والآيديولوجية، التابعة للمحيط في الداخل اللبناني. فمأساة المدى اللبناني أنه قامت فيه على الدوام حركتان متعارضتان: الحركة اللبنانية والحركة الإقليمية في لبنان، العثمانية، والسورية الفيصلية والسعادية والأسدية، والوحدوية العربية البعثية والناصرية، والأممية الماركسية، وأخيراً الإسلامية الإيرانية. والمأزق نفسه يتكرّر أمامنا اليوم: الحركة الإقليمية في لبنان، على الرغم من النكسات التي أصابتها في ذاتها وفي مداها الشرق أوسطي، تجهد في منع زحزحة صخرة سيزيف من مكانها، وتأمل ربما، إذا حمل سيزيف صخرته إلى فوق، أن تعيد دحرجتها.
ظاهرتان، وسؤالان كبيران في الماضي والحاضر عن سرٍّ يصعب فهمه: كيف تكون جماعات في المدى اللبناني معادية على الدوام للجوهرة اللبنانية؟ وما الحلّ حقاً؟