علي عبيد الهاملي
لم تفاجئني كثيراً الصحافية والناشطة اللبنانية مريم مجدولين اللحام عندما قالت إن والدها اعترض على دراستها للإعلام، رغم كونه صحافياً وكاتباً، عمل بالإذاعة اللبنانية ما يقرب من 25 عاماً، قائلة إنه كان يطلق عليها «مهنة الفقراء» لأن الإنسان الذي يريد أن يكون واضحاً وصريحاً لا يبيع صوته يظل فقيراً.
عبارة «الإعلام مهنة الفقراء» هذه ذكرتني بالمقولة الشهيرة «أدركته حرفة الأدب» التي كان العرب يصفون بها من يمتهن الأدب، لأنهم لا يتوقعون أن يحقق مكاسب مادية منه، وتضيق به الأحوال بسبب احترافه لهذا المجال.
ويقال إن أول من استخدم هذه العبارة هو أبو العباس أحمد بن يحي بن زيد بن سيار الشيباني الشهير بـ «ثعلب»، أحد كبار علماء اللغة والنحو في العصر العباسي، بينما ينسب آخرون العبارة إلى الأديب الشهير الجاحظ، وقد كان هو أيضاً من الذين أدركتهم حرفة الأدب، فكان احترافه هذا سبباً في ضيق عيشه. ومن اللطائف أن بعض اللغويين يقولون إن كلمة «حرفة» تنطق بضم الحاء، وهي غير «حرفة» التي تنطق بكسر الحاء. وفي هذا تفصيل قد يطول قليلاً.
أياً كان وجه الشبه بين حرفة الإعلام وحرفة الأدب، فإن السؤال المهم هو: هل الإعلام فعلاً مهنة الفقراء، كما نقلت مريم مجدولين عن والدها، أم هو مصدر للغنى والثروة، وفقاً لما يقوله البعض، ضارباً على ذلك أمثلة من الواقع؟
ربما لا يكون الإعلام مهنة الفقراء، لكنه قد يكون مهنة المتاعب. هذا ما يقوله البعض أيضاً، لأن النجاح فيه يتطلب جهداً كبيراً وعملاً متواصلاً، وفي الغالب لا يكون العائد المادي متناسباً مع الجهد المبذول.
ولكن في المقابل، هناك إعلاميون استطاعوا تحقيق ثروات كبيرة، خصوصاً في زمننا هذا، حيث أصبح الإعلام متعدد القنوات والمنصات، من الإذاعة والتلفزيون والصحف إلى الإعلام الرقمي والسوشيال ميديا، فالصحافيون والمذيعون والمؤثرون الناجحون يمكن أن يحققوا اليوم دخلاً مرتفعاً إذا أحسنوا استغلال مهاراتهم وفرصهم.
الإعلام إذن ليس حكراً على الفقراء أو الأغنياء، لكنه مهنة تعتمد على الشغف والمهارات والقدرة على التكيف مع التغيرات السريعة في المجال.
النماذج التي تؤيد هذه الفكرة متوفرة، صحيح أن أكثرها في الغرب، ولكن لدينا في عالمنا العربي نماذج منها، قد نختلف على استحقاقها المداخيل العالية التي تحصل عليها وقد نختلف على ذلك، لكنها موجودة على أي حال، حتى لو كانت قليلة، ولكن إلى أي درجة يمكن أن يجعلنا هذا ننصح أبناءنا وبناتنا بالعمل في مهنة الإعلام، أو نقول لهم ابتعدوا عن هذه المهنة، كما فعل والد مريم؟
ثمة من يقول إن هناك مؤثرين ونجوم «سوشيال ميديا»، يقدم بعضهم محتوى غير هادف، وهذا وصف مهذب، وهو محتوى لا يلتزم بقواعد الإعلام الصحيحة، لكنهم يحققون مداخيل كبيرة لا يستطيع تحقيقها الإعلاميون الملتزمون بهذه القواعد.
ربما كان هذا ما قصده والد مريم عندما نصحها بالابتعاد عن الإعلام، مطلقاً عليه وصف «مهنة الفقراء» الذي يمكن تحويله إلى «مهنة المحترمين» في هذه الحالة. هذه المقولة ربما تكون صحيحة، لكنها لا يجب أن تكون ذريعة للتنفير من الالتحاق بمهنة الإعلام، التي يمكن ألا تحقق للملتحقين بها مداخيل كبيرة، لكنها تحقق لهم الاحترام الذي يستحق التضحية من أجله.
على المستوى العالمي هناك إعلاميون أثرياء، لعل أبرز مثال لهم الأمريكية أوبرا وينفري، التي تجاوزت ثروتها من برامجها التلفزيونية واستثماراتها المالية مليارات الدولارات. وفي العالم العربي هناك بعض مقدمي البرامج الحوارية الذين بلغت عقودهم مع بعض المحطات التلفزيونية ملايين الدولارات.
وبغض النظر عن اختلاف الآراء حول مدى استحقاق هؤلاء لهذه الرواتب من عدمه، وهذا محل جدل، فإن القنوات التي وقّعت معهم تنظر بالدرجة الأولى إلى الدخل الإعلاني الذي تجلبه البرامج التي يقدمونها، وإلى نسبة المتابعة والمشاهدات التي يحققونها.
ظهور الإعلام الجديد خلق فئة جديدة من الإعلاميين الأثرياء، فبعض المؤثرين في الإعلام الرقمي يحققون ملايين الدولارات سنوياً من الإعلانات والرعاية والعلامات التجارية الخاصة، مثل مقدم البودكاست الأمريكي الشهير جو روغان، الذي حصل على صفقة مع «Spotify» بقيمة 100 مليون دولار.
كل هذا يبقى كلاماً قد نتفق عليه وقد نختلف. الحقيقة التي لن نختلف عليها هي أننا أدركتنا «مهنة الفقراء» يا مريم.