في أروقة ألعاب الفيديو يدور سباق بارد.. ومُستعر، صَامت ومُعلن.. بين الصين وأمريكا من أجل التفوق والتربع على عرش القوة الأكثر تأثيراً في عقولِ المُراهقين.
بينما يحتدم السباق.. وتحاول الصين اللحاق لتقليص الهوة بينها وبين أمريكا.. تحاول الأخيرة التشبث بمكانتها على قمة العالم عسكرياً، واقتصادياً، وسياسياً، وتكنولوجياً. ويبدو أن واحداً من تلك المجالات التي وصل الصراع إليها.. هو السيطرة على عقول المُراهقين من خلال ألعاب الفيديو، ومنصات التواصل الاجتماعي.
تتوجس أمريكا من هذا المارد الأصفر الذي صعد فجأة لتبوُّؤ مركز المُنافس الأول لها في كل المجالات خاصة المجال التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، والذكاء الصناعي والتجاري، والاقتصادي.. وحتى ذكاء التأثير في الجيل الصاعد وهو ما كانت أمريكا تتباهي بتفوقها فيه في الثمانينات من خلال الأفلام والمسلسلات التي تروج للثقافة والقيم الأمريكية، وتضمن ولاء المُراهقين والأطفال لها. تجد اليوم نفسها أمام الصين التي برعت في التفوق في مجال أكثر تأثيراً في الجيل.. ألعاب الفيديو ذات المردود الاقتصادي العالي والمردود الثقافي الأهم. والمنصات الاجتماعية مثل (تيك توك) ذات التأثير المهم في تشكيل أفكار وعقول المُراهقين، هذا بالإضافة إلى المكسب الكبير من ثروة البيانات التي أصبحت تُعد نفط الغد.
وإذا كان الغد هو الجيل الجديد علينا أن نعترف أنه الجيل الذي هجر التلفاز وبات يتنقل اليوم بين المنصات الاجتماعية وألعاب الفيديو، فهو اليوم يتنقل بين الولاء لمنصات أمريكية أو لمنافساتها الصينية وبين ألعاب الفيديو الأمريكية ذات الرسائل المُبطنة إلى ألعاب الفيديو الصينية التي برعت في انتزاع مكانتها وسط هواجس ومخاوف أمريكا من الأفكار الصينية التي تحملها، ومن أرقام التفوق الاقتصادي التي حققتها.. ولدراسة المزيد عن أهمية هذه الألعاب.. نعود للبداية، للعام 2000 حين أصدرت الصين حظراً على ألعاب الفيديو مثل (البلاي ستشين) و(إكس بوكس) وغيرها.. أتى الإجراء نتيجة قلق السلطات على الصحة العقلية والبدنية للمُراهقين الصينيين، لكن شغف المُراهقين كان يدفعهم إلى الحصول على تلك الألعاب في السوق السوداء التي انتشرت. هذا الحظر أدى دون تخطيط مُباشر إلى ازدهار الصناعة المحلية الصينية لألعاب الحاسوب والهواتف في البلاد.. بات لدى مُطوري الألعاب الصينيين حافز كبير ومُراهقون مُتعطشون لألعاب مُتطورة ذات قوة مُعالجة ضئيلة مقارنة بأجهزة الألعاب الأمريكية.
في ظل حاجة السوق والطلب الكبير على ألعاب الهاتف ذات القيمة الإنتاجية الرخيصة، كانت الألعاب الجديدة ذات ربحية أعلى للشركات الصينية المُطَورة على المدى الطويل مقارنة بألعاب الفيديو التقليدية. وفي عام 2015 رفعت الصين الحظر عن ألعاب الفيديو، بهدف رفع الحظر عن ألعابها، فكان للقرار نتائج اقتصادية إيجابية حيث كان سوق ألعاب الفيديو يتضاعف وهكذا سُمح للشركات والمُطورين الصينيين بتصدير ألعاب الفيديو الصينية لتصبح واسعة الانتشار.
مما سبق نجد أن الحظر كان الدافع للمُطورين نحو الإبداع في الإنتاج المحلي لمنع تسلل الألعاب المحظورة عبر السوق السوداء، فكان أن أخذ المُطورون الصينيون يبرعون في ألعاب مُطورة وجديدة بأسعار زهيدة ما جعلها الأكثر طلباً عالمياً، وهكذا حققت مكاسب ضخمة واجتذبت ملايين اللاعبين حول العالم. وتفوقت الشركات الصينية بوضوح على استوديوهات صناعة الألعاب، وتستحوذ اليوم على نصف إيرادات صناعة ألعاب الفيديو عالمياً..
بدأت المنافسة تحتد عندما بدأت الصين تتجه إلى مساحة أكبر في الألعاب الكبيرة، فبدأت شركات مثل (تن سنت) و(نت إيز) لتطوير وتشغيل الألعاب، في الاستحواذ على الاستوديوهات الأجنبية واستقدام المواهب العالمية من المُطورين بمبالغ سخية. لتنافس أمريكا وغيرها من الشركات العالمية. على الجانب الآخر وقفت أمريكا تتابع بترقب الصعود الصيني في عالم ألعاب الفيديو إذ لا يتوقف الأمر على المكاسب المادية أو التطور التكنولوجي وإنما يثير خبراء الأمن القومي في أمريكا مخاوف بشأن امتلاك بكين لملايين البيانات للمُستهلكين الأمريكيين، والتي يكفي ضغط الزر لتحصل عليها، خاصة أن الأمر يمتد لخدمة أغراض استخباراتية صينية.
الألعاب هنا ليست مجرد ألعاب تسلية، هي الصراع على القوة التكنولوجية، وتعتبر لعبة (رحلة إلى الغرب) التي أصدرتها الصين عام 2024 واحدة من أهم الألعاب التي لاقت رواجاً عالمياً حيث وصلت مبيعاتها إلى 18 مليون نسخة. وقالت منصة (ذا كونفرسيشن) الأسترالية إن اللعبة لم تحطم الأرقام القياسية فحسب، بل قادت تحولاً حاسماً في التوازن العالمي للهيمنة التكنولوجية، فاللعبة ليست إلا جزءاً صغيراً من استراتيجية بكين لتحدي الهيمنة الغربية فيما يتعلق بصناعة التكنولوجيا.
ورغم أنها اليوم تُعتبر رائدة في المشهد التكنولوجي العالمي فإنها تضع قواعد صارمة داخل البلاد للانخراط في ألعاب الفيديو، إذ تخشى على أطفالها والمُراهقين من الإدمان، فهي تُعد شكلاً من أشكال الأفيون العقلي الذي يهدد النجاح الاجتماعي والأكاديمي للمُراهقين. أما المخاوف الغربية من تسونامي الألعاب الصينية فتتجاوز تفوقها الاقتصادي، إلى تأثيرها في مخيلة قطاع كبير من المُستهلكين بتقديم معلومات سلبية عن أعداء ثقافتها الأمر الذي يجعل من ألعاب الفيديو سلاحاً استثنائياً من أسلحة القوة الناعمة والتحكم في الثقافة، والأيديولوجيا، ورموز الخير، والشر. وبحسب المراقبين فهي الوجه الآخر لسباق تكنولوجيا الذكاء.. وهي سباق السيطرة على الثقافة والولاء.
*كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية