ابتكر المفكر الأميركي جوزيف صموئيل ناي، مفهوم «القوة الناعمة»، في عام 1990، في ذروة الاستعراض الأميركي للقوة العسكرية بعد انهيار المعسكر الشيوعي، وفي عام 2004 طوَّر هذا المفهوم في كتاب حمل عنوان «القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية»، وهو يرى أن «الثقافة تمثل أهم موارد القوة الناعمة لأي بلد إذا كانت تتمتع بالحد الأدنى من الجاذبية، وذات قيم يمكن أن تتواصل مع الخارج».
بإعلانها «عاصمة للثقافة العربية 2025»، تستعيد الكويت صورتها المحفورة في الذاكرتين الخليجية والعربية، بوصفها واحدةً من أقدم منارات الإشعاع الثقافي في الخليج، وفي العالم العربي أيضاً، تجاوزت الكويت مساحتها الصغيرة، لتصل عبر منتجاتها الثقافية إلى كل بيت تقريباً في العالم العربي، كانت الكويت تتمدَّد، حتى قبل استقلالها في عام 1962، بالقوة الناعمة التي رسخَّت حضورها العميق في الذاكرة العربية.
لا يرتبط الحضور الإبداعي في الكويت بالطفرة النفطية، والوفرة المالية، فقد صدرت مجلة «الكويت» في عام 1928 بوصفها أول مجلة كويتية، والمجلة الأولى في الخليج العربي. وصدرت مجلة «العربي» عام 1958، التي أصبحت أهم الإصدارات الثقافية العربية، وأسهمت في تعزيز ونشر الثقافة والمعرفة في الوطن العربي، وكانت حاضنةً للإبداع الفكري والثقافي. كان أول رئيس تحرير لها الدكتور أحمد زكي، أحد أعلام النهضة الأدبية الحديثة في مصر والعالم العربي، تلاه أحمد بهاء الدين، ثم عدد من المفكرين الكويتيين أمثال د. محمد الرميحي، ود. سليمان العسكري، وإبراهيم المليفي... ومن هذه المجلة التي أصبحت سفيرة الثقافة العربية على مدى أكثر من نصف قرن، صدرت كتب «العربي»، و«العربي الصغير»، و«العربي العلمي»، وهي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الذي يُصدر باقةً من السلاسل والدوريات الثقافية العربية مثل؛ مجلة «عالم الفكر»، وسلسلة «عالم المعرفة»، وسلسلة «إبداعات عالمية»، وسلسلة «من المسرح العالمي»، ومجلة «الثقافة العالمية»، إضافة إلى إصدارات إدارة الدراسات والبحوث التي تتنوع بين التاريخ، والأدب، والفنون، وتقارير البعثات الآثارية.
ومن أقوى أسلحة الكويت «الناعمة»؛ المسرح، والدراما؛ عرفت الكويت المسرح في 1920، لكن شكله الحديث نشأ بوصول المسرحي المصري زكي طليمات بداية الستينات من القرن الماضي، وكان النصف الثاني من السبعينات حتى النصف الأول من الثمانينات فترة ازدهار المسرح والدراما الكويتيَّين، هذه الفترة مهمة لأنها جعلت التراث الثقافي والفلكلور والطعام وأسماء المناطق، وحتى المفردة المحكية الكويتية ليست فقط مألوفة، بل ومحببة وتسهم كلها في توطين الألفة مع الكويت وشعبها. في ذلك الوقت أيضاً كانت الرياضة الكويتية في أوج حضورها، وهي الأخرى كانت تمثل الجاذبية والحماس لشباب الخليج... وتمكَّنت الرياضة، كما الثقافة، كما الفنون الكويتية في عصرها الذهبي، من تقديم «أيقونات» عابرة للحدود غرست حضور الكويت في الوجدان الشعبي العربي، أمثال عبد الحسين عبد الرضا، وسعد الفرج، وخالد النفيسي، وإبراهيم الصلال، وغانم الصالح، وآخرين.
ومن الكويت برزت شخصيات خدمت الثقافة العربية وصنعت الريادة والتميز، أمثال عبد العزيز سعود البابطين الذي بنى صرحاً للأدب والشعر، وحاضنة للإبداع الشعري العربي، صاحب موسوعة ومكتبة «البابطين للشعر العربي»، أول مكتبة في العالم تختص بالشعر العربي.
ومنها جاء محمد عبد الرحمن الشارخ، صاحب كمبيوتر «صخر» أول حاسب آليّ عربي، ومشروعه «أرشيف الشارخ» للمجلات الأدبية والثَّقافية العربية، على شبكة الإنترنت، الذي يحوي نسخاً من أمهات المجلات العربية القديمة والحديثة، تحمل مخزوناً ثقافياً عربياً.
بعد اختياره شخصية العام لمهرجان «القرين الثقافي»، قال الناقد السعودي الدكتور عبد الله الغذامي، إن «الكويت وطنٌ تميز بمعنوياته العميقة، التي أثبت الزمن أن معنويات الكويت هي قوتها، وهي جيشها الفعال»، وإن الكويت «رسمت صورتها في الأذهان، وصارت قوةً ناعمةً وخارقةً، بمعنى؛ قدراتها على صناعة صورٍ ذهنية ذات بُعدٍ ثقافي جاد ومحفّز».
كانت الثقافة والفنّ والرياضة هي أدوات «القوة الناعمة» للكويت، التي رسَّخت حضورها في العالم العربي، وصنعت لها أصدقاء ومحبين ومدافعين ومتأثرين في شتى أنحاء العالم، وجعلت الناس يعرفون ويألفون ويعجبون بهذه البلاد ويتخذونها نموذجاً وقدوة، وأصبحت الكويت بهذه المنتجات منارة للتسامح والحوار... وفي هذا العام الذي أصبحت فيه «عاصمة للثقافة والإعلام العربي» ينبغي التشديد على أهمية أن تستعيد الكويت مجدداً ألقها الثقافي والإعلامي، وأن تنتعش فيها مجدداً حرية الإبداع، واسترجاع الدراما والمسرح من سطوة الأعمال التجارية، فلا يجوز لهذه القوة الناعمة، التي كانت تحقق الفتوحات والانتصارات، أن تتراخى، أو تتراجع!.