أمينة خيري
الأساليب التقليدية والطرق المتوارثة والنظريات الجامدة لم تعد وحدها تصلح لإدارة حكومات العالم، التي بدورها تدير شؤون سكان الأرض. يبدو هذا واضحاً منذ سنوات، وربما عقود، ورغم ذلك، العديد من الدول يتمسك، أو ربما يضطر للاكتفاء بالرؤى القديمة والطرق المستهلَكة.
اليوم، يمكن تصنيف حكومات العالم بحسب الأدوات التي تستخدمها، والتقنيات التي تعتمد عليها، والقدرات والمهارات التي يتم دمجها وتحديثها، لا بحسب متطلبات الحاضر، بل استشرافات المستقبل.
ومنذ انطلاق الدورة الأولى للقمة العالمية للحكومات تحت قيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في عام 2013، والأدلة تتواتر بأن بناء مستقبل أفضل للبشرية لن يتحقق إلا باستشراف حكومات المستقبل.
وهذا لا يتم إلا بالتعاون والتكامل، وهو النموذج الجديد الذي أسسته القمة للتعاون الدولي. إنه نموذج إلهام وتمكين الجيلين الحالي والقادم من الحكومات.
هذا العام، انعقدت القمة الاستشرافية في ظروف استثنائية، ليست فقط ظروف الإقليم، بل ظروف العالم الذي يؤثر ويتأثر في بعضه بعضاً سلباً وإيجاباً. لم تعد السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو أي من الشؤون الاجتماعية تعمل بمعزل عما يجري في العالم، ولم تعد الدول قادرة على إقامة سياج «حماية» أو أسلاك شائكة حول شعوبها لحمايتها أو منعها من معرفة ما يجري عبر الحدود، والتفاعل معه، وربما المشاركة فيه.
ما قاله البروفيسور محمد يونس، الحائز جائزة نوبل للسلام وأستاذ الاقتصاد وكبير المستشارين في حكومة بنغلاديش، من أن الاقتصاد التقليدي القائم على تعظيم الأرباح لم يعد كافياً لمعالجة التحديات العالمية، يمكن تعميمه على كل تفاصيل الحياة اليوم، من السياسة إلى الصراعات إلى المصالح العالمية والوطنية، ومنها إلى ثقافات الشعوب وعلمها وتعليمها وطموحاتها وتنميتها.
يبدو الحديث عن منطقتنا العامرة بالصراعات، التي تقف اليوم في مفترق طرق حقيقي وخطير، وكأنها خارج سياق القمة العالمية للحكومات، ومنهجها القائم استشراف المستقبل وتمكين الأجيال الجديدة من الحكومات، وطرح رؤى الحراك الاقتصادي والاجتماعي المعزز للتنمية العادلة للجميع. الحقيقة عكس ذلك.
المنطقة العربية اليوم، وهي في إحدى مراحلها بالغة الخطورة، ليست في حاجة فقط إلى إنهاء الصراعات المميتة، والوصول إلى تسوية عادلة ومستدامة، لكنها في أشد الحاجة لبناء مستقبل «ذكي»، قائم على قواعد «ذكية»، لا سيما أن البقاء صار للأذكى.
ما ذكره معالي محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء، رئيس مؤسسة القمة العالمية للحكومات، من أن العالم يمر بمرحلة مفصلية غير مسبوقة بعد 25 عاماً من التحولات الكبرى.
وانتقال الاقتصاد العالمي من هيمنة القطاعات التقليدية من نفط وصناعات ثقيلة وغيرها إلى الصناعات الرقمية والهيمنة التكنولوجية والمنصات الرقمية، يعيد رسم موازين القوى الاقتصادية العالمية.
وبما أن الاقتصاد هو الوجه الآخر للسياسة، أو هو الوجه المكمل لها، فإن المشهد الجيوسياسي، كما ذكر معالي محمد القرقاوي، يشهد أيضاً تغيرات كبرى. لم تعد النزاعات قاصرة على ساحات المعارك التقليدية، بل انتقل جزء منها إلى الفضاء السيبراني والحروب الاقتصادية، وعلى الحكومات أن تستعد بوضع سياسات استباقية تتسق والتحولات العالمية.
استمرار الصراعات في المنطقة العربية ليس مميتاً وهادماً فقط للبشر والحجر، لكنه يمعن في الإبقاء على الجانب الأكبر من الدول العربية وحكوماتها وشعوبها في خانات الماضي.
اللحاق بالحاضر، والجاهزية للمستقبل تعرقلهما المواقف المعلقة والحلول المؤقتة والقنابل الموقوتة المستعدة للانفجار، إن لم يكن اليوم فغداً. معالي محمد القرقاوي حين وصف الـ25 عاماً الأولى من الألفية الثالثة.
وهو ربع القرن الذي شهد تحولات كبرى تقنية واقتصادية واجتماعية، أشار كذلك إلى أن ما تحمله الـ25 عاماً المقبلة سيفوق كل ما شهدته البشرية في تاريخ حضارتها. مستقبلنا - كما قال - ستحدده قراراتنا اليوم، وهي القرارات التي تصنع برؤية تستلهم الماضي وتستعد للقادم.
القادم عربياً في حاجة ماسة إلى «ضبط زوايا» عاجل. هذه الزوايا لن تنضبط إلا بحلول دائمة وناجعة وعادلة لصراعات المنطقة.