محمد ناصر العطوان
قالت لي وقد بدت أنها لممت كل أوراق الحكمة والمهنية في حقيبة أغلقت منذ 15 عاماً مضت «الشباب مندفعون ومتعجلون ويشعرون بالاستحقاق وتجب الصرامة معهم».
توقفت عند كلمة «صرامة» وسرحت في خيالي بحثاً عن أصل حروفها، وبحثت في «غوغل» عن معناها اللغوي والذي كان: عَامَلَهُ بِصَرَامَةٍ: بِقَسْوَةٍ، بِشِدَّةٍ رَجُلُ صَرَامَةٍ: الْمُسْتَبِدُّ بِرَأْيِهِ.
وتذكرت عندما نشر دون تابسكوت، كتابه «جيل الإنترنت» في طبعته العربية عام 2012م، كيف كان أشبه بعالم أنثروبولوجيا يراقب قبيلة جديدة ظهرت فجأة على وجه الأرض- جيل نشأ مع الإنترنت وليس من دونه! لم يكن هذا الجيل مجرد مستخدم للتكنولوجيا، بل كان منسوجاً منها، ما دفع تابسكوت إلى التساؤل: كيف يؤثر ذلك على شخصياتهم، مؤسساتهم، والمجتمع ككل؟ دخل تابسكوت إلى هذه القبيلة دون أحكام مسبقة، أما المقاربة التي انتهجها، في أنه لم يجلس في برج عاجي يفكر في هذا الجيل من بعيد ويُطلق عليه أقذع الأحكام نتيجة تجارب شخصية، بل استند إلى دراسة شملت 11,000 شاب من مختلف دول العالم، محاولاً فهم كيف يفكرون، وكيف يختلفون عن الأجيال السابقة؟ نهجه كان تحليلياً، يعتمد على البيانات، لكنه لم يسقط في فخ النقد التقليدي لهذا الجيل، بل دافع عنهم باعتبارهم ليسوا كسالى ومدمنين على الشاشات، بل مبتكرين وفاعلين اجتماعياً بطرق غير مسبوقة.
من أبرز النتائج التي توصل إليها تابسكوت، على مستوى خصائص جيل الإنترنت أنه متصل دائماً، ولا يرى فرقاً بين العالم الرقمي والواقعي، بل هما امتداد لبعضهما البعض، ومبدع وتشاركي فبدلاً من الاستهلاك السلبي، يحب صناعة المحتوى والمشاركة فيه، ويبحث عن المعنى ويتعلم بشكل مختلف، فالتعليم التلقيني يثير ملله، فهو يفضل التعلم التفاعلي القائم على التجربة.
على مستوى تغيير المؤسسات كانت الصدمة للمديرين التقليديين، فهذا الجيل لا يقبل التسلسل الهرمي الصارم، ويريد بيئات عمل مرنة، إبداعية، تقدر أفكاره، وليس فقط سنوات خبرته، أما الإدارة من أعلى إلى أسفل؟ قديمة جداً! الشركات التي لا تتكيف مع طريقة تفكير هذا الجيل تخسر المواهب بسرعة، أما العمل فيجب أن يكون ممتعاً وذا مغزى، جيل الإنترنت لا يريد فقط راتباً، بل يريد أن يشعر بأنه يحدث فرقاً، أما الإنتاجية فالقوة في التواصل، وهذا الجيل يتعاون ويعمل في فرق عبر الإنترنت بسهولة، ما يعيد تعريف مفاهيم الإنتاجية والتواصل المؤسسي.
على مستوى تغيير المجتمع فجيل الإنترنت ليس مجرد مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي، بل يستغلها في إحداث تغيير حقيقي، وهو ما نراه اليوم في الحركات الشبابية حول العالم.
ظهر على يديهم مصطلح الاقتصاد التشاركي الذي نمى بسرعة مثل Uber، فهذا الجيل يفضل النماذج التشاركية على الامتلاك التقليدي.
في الواقع عزيزي القارئ، رغم أن استقراء تابسكوت، كان منذ 2012، فإن في دراسة نشرتها جامعة هارفارد عام 2023 أكدت أن جيل الألفية وما بعده يفضلون العمل في بيئات مرنة، حيث يمكنهم تحقيق التوازن بين الحياة والعمل دون التضحية بالإبداع والحرية، وهذه الدراسة تنطبق على الطلبة في المدارس والموظفين في المؤسسات... أما الشركات التي تتبنى هذا النموذج تحقق مستويات أعلى من الاحتفاظ بالموظفين والإنتاجية.
وفي دراسة لجامعة ستانفورد 2024 م وجدت أن 78 % من الشركات التي تبنت نموذج العمل المرن الذي اقترحه تابسكوت، حققت زيادة في الإنتاجية بنسبة 40 %.
أما التقرير الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي 2024م أشار إلى أن الشباب اليوم أكثر اهتماماً بالاستدامة والعدالة الاجتماعية، ويفضلون دعم العلامات التجارية التي تتبنى القيم الأخلاقية، بدلاً من مجرد البحث عن الجودة أو السعر.
ضف إلى ذلك أن جيل الإنترنت هو الأعلى تطوعاً في التاريخ، والأكثر نزاهة في تعامله مع المنتجات والشركات، وهم مبعث الرجاء ومعقد الأمل.
ما قاله دون تابسكوت، لم يكن مجرد تكهنات، بل كان قراءة مبكرة لعالم يتشكل أمام أعيننا. جيل الإنترنت ليس مجرد جيل «يعيش على هاتفه»، بل هو القوة الدافعة وراء أعظم التحولات الاجتماعية والاقتصادية في عصرنا... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر.