أمينة خيري
الرياح العاتية التي هبّت من البيت الأبيض لم تقتصر على السياسة أو الاقتصاد أو الحدود أو المهاجرين فقط، بل جاءت محمّلة بمكون التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي.
رسالة بالغة الأهمية حملها هذا المكون: صحيح أن السياسة والاقتصاد والحروب، وتوازنات المصالح المنقلبة رأساً على عقب، ما زالت تهمين على جزء كبير من أمور الكوكب وسبل إدارتها، إلا أن هذا لا يعني إغفال المكون القادم بسرعة قد تفوق سرعة الضوء.
العنوان العريض كان الحرب الشعواء بين «تشات جي بي تي» الأمريكي و«ديب سيك» الصيني. أما التفاصيل، فتتعلق بالحرب الباردة، أو لعلها الساخنة، بين أمريكا والصين على من يهيمن وحده على قمة ومفاتيح الذكاء الاصطناعي؟!
وإذا كانت دول العالم تختلف فيما بينها حول الخوف من، أو الاستعداد أو عدمه، أو التفاؤل أو التشاؤم من الذكاء الاصطناعي، ومدى قدرته على التفوق على البشر، أو على الأقل القيام بما يقومون به في العديد من الأعمال والمهام، فإن هذه المخاوف أو الاستعدادات محقة، بغض النظر عن جنسية هذا المبتكر التقني الرقمي المذهل.
نحن إذن أمام لاعب جديد نسبياً في الكوكب. هذا اللاعب ليس قادماً، بل قدم بالفعل، وأثبت قدراته الحالية، وألمح إلى قدرات المستقبل القريب التي تثير مخاوفنا.
ما يجب أن يثير مخاوفنا حقاً هو قصر النظر أو محدوديته. القول بأن بين أيدينا ما يكفي ويفيض من مشكلات وأزمات حالية من حروب وصراعات، وأن هذا لا يترك لنا فسحة من الوقت أو الجهد أو المال للتخطيط والاستعداد لمزيد من هيمنة الذكاء الاصطناعي هو «حجة البليد».
وفي حال افترضنا حسن النوايا، فإن تجاهل أو تسويف التخطيط لكيفية الاستعداد والتعايش والاستفادة من الذكاء الاصطناعي يدفع بأصحاب النوايا إلى «مقاعد المشاهدين» في الكوكب، وليس فقط «دكة احتياطي» الدول.
السباق نحو التفوق في مجالات الذكاء الاصطناعي سمة الدول الذكية، مهما احتوت قوائم أولوياتها من أزمات، أو انتابها شعور بأنها قادرة على إدارة أمورها بعيداً عن الذكاء الاصطناعي «الآن»!
الآن لا يدوم للأبد. وسرعة التغير في ظل العصر الرقمي وتقنياته وتطبيقاته أكبر بكثير من التحولات الكلاسيكية التي تستغرق عقوداً أو سنوات أو حتى أشهر.
تطبيق «ديب سيك» الذي فاجأت به الصين العالم، وصدمت به أمريكا، لم يظهر بين يوم وليلة، بل هو نتاج خطط مدروسة، واستثمارات ضخمة، وطموحات حدودها السماء، وأحياناً تحاول اجتيازها.
الظهور المفاجئ لـ«ديب سيك» الذي أحدث ضجة في أسواق التكنولوجيا، وتفوق (لحين إشعار آخر) على «تشات جي بي تي»، وأمعن في إشعال نيران المنافسة بين الصين وأمريكا ليس إلا «نظرة خاطفة» أو Sneak preview أشبه بالمشاهد القصيرة جداً من الفيلم الجديد قبل طرحه في الأسواق.
الأسواق موعودة بالكثير. والأسواق هي الدول والشعوب والتي تختلف فيما بينها في قدراتها الاستعدادية، ومهاراتها في الاستفادة.
الطريف واللافت أن استطلاعاً أجرته «مؤسسة إبسوس» لبحوث الرأي العام قبل عامين حول الدول الأكثر تخوفاً من الذكاء الاصطناعي، أظهر أن العديد من الدول متخوفة، لكن المخاوف الأكبر والأبرز تتركز في ثلاث دول، بينها الصين!
ولحسن الحظ أن دولاً عربية تعي ما يجري تماماً. الإمارات والسعودية ومصر تأتي على رأس هذه الدول، بقدرات مختلفة وبحسب طبيعة واحتياجات كل دولة. الإمارات تتبنى استدامة التطوير والتدريب والتأهيل في مجال الذكاء الاصطناعي، وتعتبر الاستثمار في البنى التحتية له أولوية قصوى.
من المؤسسات الحكومية، إلى التعليم والصحة والبحث العلمي، وكذلك الإعلام والترفيه والخدمات، تضع هذه الدول أعينها على كيفية تعظيم الاستفادة والاستثمار والمواكبة المستدامة.
بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن الذكاء الاصطناعي القادم بكل تأكيد وقوة، وبرغم الإمكانات والفرص الهائلة التي يقدمها، إلا أن تطوره، ومن ثم الاستفادة منه، غير متكافئ في العالم، وهذا سيؤدي إلى المزيد من اتساع الفوارق، وتعميق فجوة العدالة.
وهناك فرصة ذهبية أمام الدول العربية لتحقيق قدر من التكامل، وسد بعض الفجوات عبر مزيد من التشارك والتعاون في الذكاء الاصطناعي.