: آخر تحديث

ما لن يُخبرك به «اللايف كوتش»

4
2
2

محمد ناصر العطوان

في خضم التحولات الكبرى التي شهدها العالم العربي منذ تسعينات القرن العشرين، حيث كنت لا أزال ألعب في الشارع مع الأصدقاء، برزت ظاهرة «اللايف كوتش» والمُقدمين للدعم النفسي والعاطفي كتجلٍّ صارخ لما يمكن أن نسميه بالعربي المتداول في الشرق الأوسط، مستعيرين مصطلحات المسيري، «النموذج المعرفي الفرداني المادي».

هذه الظاهرة ليست مجرد مهنة جديدة أو خدمة استشارية مستحدثة، بل هي انعكاس عميق لتحولات جذرية في البنية المعرفية والاجتماعية للمجتمعات العربية منذ التسعينات وحتى اليوم.

لقد كنت شاهداً على فترة التسعينات وتحولاتها الجوهرية نحو النموذج النيوليبرالي، الذي يقوم على فكرة «تسليع» كل شيء، بما في ذلك الذات الإنسانية، وفي هذا السياق، يمكننا فهم ظهور «اللايف كوتش» كامتداد طبيعي لعملية «تسليع الذات» وتحويلها إلى مشروع استثماري يحتاج إلى «إدارة» و«تطوير» مستمرين من شخص خبير أو غير خبير في إدارة النفس البشرية!

تقدم لنا مدرسة فرانكفورت النقدية أدوات تحليلية ثمينة لفهم هذه الظاهرة. فكما أشار هوركهايمر وأدورنو، في «جدل التنوير»، فإن العقلانية الأداتية تحول كل شيء إلى موضوع للسيطرة والتحكم. وهنا يظهر «اللايف كوتش» كأداة لهذه العقلانية الأداتية، حيث يتم اختزال تعقيدات الحياة الإنسانية سواءً ارتداء حجاب أو نزعه أو علاقات شخصية أو حتى شعور بالفراغ والخواء من المعنى، إلى مجموعة من «الأهداف» و«الخطط» و«مؤشرات الأداء».

يمكننا، متبعين منهج المسيري في التحليل، أن نرصد ثلاثة تحولات رئيسية في الوعي الذاتي العربي، حيث كان التحول الأول من الجماعة إلى الفرد، ومن نموذج الهوية الجماعية التقليدية إلى نموذج الفردانية المطلقة، حيث أصبح «النجاح الفردي» هو المعيار الأساسي للقيمة الذاتية، وانتشرت وتفجرت المقاطع في «السوشال ميديا» من وسط البيوت، وطفحت قضايا الزواج بعيداً عن الأهل، وقضايا المساكنة، وطغت مفاهيم الحرية على مفاهيم المسؤولية، ووصلت نسب الطلاق في الدول العربية إلى 40 و50 %.

التحول الثاني كان من المعنى إلى الأداء، وانتقال التركيز من البحث عن المعنى والغاية والأثر إلى تحسين الذات والإنتاجية ومؤشرات الأداء، وهو ما يتجلى في خطاب «التطوير الذاتي» والتنمية البشرية السائدة، ومن هنا يطل علينا «اللايف كوتش» والمرشدون والمستنيرون الذين زاحموا كراسي الأطباء النفسانيين وتجار المخدرات!

التحول الثالث كان من العضوي إلى الميكانيكي، حيث تحولت النظرة إلى الذات من كيان عضوي معقد له أبعاد روحية وطينية لا يمكن الإحاطة بها، وفيه «آلة» يمكن برمجتها وتحسين أدائها من خلال «تقنيات» و«إستراتيجيات» محددة.

نشهد اليوم آثار وتجليات هذه التحولات في مظاهر عدة:-

- تفكك الروابط التقليدية: حيث حل «المدرب الشخصي» محل شبكات الدعم الاجتماعي التقليدية، وحل الطبيب النفساني محل شيخ الدين، وحلت «السوشال ميديا» محل الوالدين، وحل الذكاء الاصطناعي محل التعليم.

- تسطيح المشكلات الاجتماعية: عبر اختزالها إلى «تحديات فردية» يمكن حلها من خلال «تغيير العقلية».

- العزلة الوجودية: رغم الوعود بالتمكين والنجاح، أدت هذه التحولات إلى تعميق الشعور بالعزلة والاغتراب، والمزيد من القلق والاكتئاب.

ولكي لا يغضب مني السادة خبراء وأعضاء نوادي «اللايف كوتش» فإن نقد ظاهرة «اللايف كوتش» لا يعني رفضها بالكامل، بل يستدعي إعادة تموضعها ضمن نموذج معرفي أكثر شمولية يأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الثقافية والاجتماعية للمجتمعات العربية والتوازن بين الفردية والجماعية وأهمية البعد الروحي والقيمي في التنمية الذاتية والعدالة الاجتماعية كإطار للتطور الفردي.

إن فهم ظاهرة «اللايف كوتش» كجزء من تحولات أعمق في البنية المعرفية والاجتماعية للمجتمعات العربية يساعدنا على تجاوز النقد السطحي نحو فهم أعمق للتحديات التي تواجه مجتمعاتنا.

وكما يذكرنا المسيري، دائماً، فإن الوعي النقدي هو الخطوة الأولى نحو تجاوز حالة «العجز المعرفي» التي نعيشها... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد