: آخر تحديث

كارتر والعلاقات الخليجية ــ الأميركية

2
2
3

على الرغم من أن فترة حكم الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر لم تدم سوى أربع سنوات من عام (1977 - 1981)، فإنها شهدت كثيراً من الأحداث الجيوسياسية التي هزّت منطقة الخليج، مثل الثورة الإيرانية عام 1979، التي أطاحت النظام الملكي، وأعلنت قيام جمهورية إسلامية بخطاب ثوري، والغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، والحرب الإيرانية العراقية عام 1980، وجعلت الخليج محوراً للسياسة الدولية، وساحةً لصراعات كُبرى ستُشكل ملامح المنطقة لعقود مقبلة.

وكان لهذه التغيرات الكبرى دور كبير في تشكيل دوافع تأسيس مجلس التعاون الخليجي، إذ شكّلت الثورة الإيرانية شرارة لتصاعد التوتر الإقليمي من خلال محاولات تصدير الثورة إلى دول الخليج والمنطقة، مما أثار مخاوف حقيقية بشأن الاستقرار الداخلي والإقليمي. كما أن اشتعال الحرب العراقية - الإيرانية التي امتدت إلى حدود الخليج، كانت كفيلاً بتهديد أمن المنطقة واستقرار الملاحة النفطية في ممرات حيوية. وقد أكدت تلك التهديدات لدول الخليج ضرورة تبني إطار جماعي يعزز قدراتها الدفاعية، ويوحد سياساتها الإقليمية لمواجهة الاضطرابات الإقليمية والتحولات الجيوسياسية، التي كشفت عن هشاشة الوضع الأمني في المنطقة. الأمر الذي جعل تأسيس المجلس خياراً استراتيجياً لا بديل عنه لحفظ أمن دول الخليج واستقرارها.

ومع الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، أصبحت منطقة الخليج جزءاً محورياً من معادلة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، حيث فتح هذا الاجتياح المجال لاحتمال تمدد الدب الروسي باتجاه منطقة الخليج للوصول للمياه الدافئة ومنابع النفط قبل الولايات المتحدة، وبالتالي أصبح استقرار الخليج لا يؤثر فقط على الاقتصاد العالمي، بل يحدد أيضاً توازن القوى بين القطبين. وبذلك، أصبحت المنطقة، بمخزونها الاستراتيجي من الطاقة، وموقعها الجيوسياسي الحسّاس، محور اهتمام الولايات المتحدة، لضمان أمن إمدادات النفط، ومواجهة النفوذ السوفياتي المتصاعد.

واستجابةً لذلك، أعلن جيمي كارتر في يناير 1980 ما عُرف لاحقًا بـ«مبدأ كارتر» خلال خطاب حالة الاتحاد، وهو إعلان يعكس التحول العميق في استراتيجية الولايات المتحدة تجاه منطقة الخليج. نصّ المبدأ على أن أي محاولة للسيطرة على منطقة الخليج من قِبل قوى خارجية ستُعد اعتداءً على المصالح الحيوية للولايات المتحدة، وسيتم الرد عليها بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك القوة العسكرية. هذا الإعلان رسّخ التزام واشنطن بحماية الخليج، مؤكداً أهمية المنطقة بصفتها ركيزة أساسية للأمن القومي الأميركي في خضم التوترات الدولية الزائدة.

وتنفيذاً لـ«مبدأ كارتر»، اتخذت الإدارة الأميركية خطوات عملية عبر تعزيز وجودها العسكري في منطقة الخليج، حيث شرعت في بناء قوة الانتشار السريع التي أصبحت لاحقاً القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM). بالإضافة إلى ذلك، وسّعت من انتشار القوات البحرية الأميركية في الخليج العربي والمحيط الهندي لتعزيز قدرتها على الرد السريع في حال وقوع أي تهديد. استمر تطبيق هذه العقيدة مع وصول الرئيس رونالد ريغان إلى السلطة عام 1981، حيث أضاف ما عُرف بـ«إضافة ريغان لمبدأ كارتر»، التي وسّعت نطاق الالتزام الأميركي ليشمل تأمين الاستقرار الداخلي لدول الخليج من أي تهديدات خارجية، مما عكس الأهمية الاستراتيجية التي اكتسبتها المنطقة في العقيدة العسكرية الأميركية.

بهذا، تحول الخليج العربي من مجرد منطقة لإمدادات الطاقة إلى محور استراتيجي للأمن القومي الأميركي، وقد تعززت العلاقات الخليجية - الأميركية بشكل غير مسبوق، حيث أدرك الطرفان أهمية الشراكة في مواجهة التحديات المشتركة، مثل تأمين استقرار المنطقة، وضمان التدفق الآمن لإمدادات النفط، واحتواء النفوذ السوفياتي المتصاعد.

وشهدت تلك الفترة توسيع نطاق التعاون العسكري، كما توسعت مجالات التعاون الاقتصادي والسياسي، وعزّز ذلك من ترابط المصالح بين الجانبين. لم تكن هذه الشراكة قائمة على الدفاع المشترك فحسب، بل امتدت لتشمل ضمان الأمن الإقليمي ككل، ما مهد الطريق لتأسيس تحالفات استراتيجية طويلة الأمد استمرت لعقود، وأثبتت أهميتها خلال الأزمات اللاحقة.

تشهد العلاقات الاستراتيجية بين دول الخليج والولايات المتحدة اليوم تطوراً ملحوظاً، بفضل إنشاء «منتدى التعاون الاستراتيجي» في مارس (آذار) 2012، الذي وضع إطاراً رسمياً للتعاون في المجالات السياسية، والعسكرية، والأمنية، والاقتصادية. وقد أسهم المنتدى في تعزيز الحوار المنتظم بين الجانبين عبر اجتماعات وزارية ومناقشات متخصصة شملت ملفات حيوية، مثل مكافحة الإرهاب، والأمن البحري، والأمن السيبراني، إلى جانب قضايا الصحة العامة، وإدارة الموارد، والإغاثة الإنسانية. وتعززت هذه الشراكة عبر التعاون العسكري والأمني من خلال مجموعات عمل متخصصة، فضلًا عن توسيع العلاقات الاقتصادية من خلال منتديات ناقشت التنوع الاقتصادي، والاستثمار، والطاقة النظيفة. ومن خلال هذه الأطر المتكاملة، أصبحت الشراكة الخليجية - الأميركية اليوم نموذجاً استراتيجياً يعزز الأمن الإقليمي، ويواكب التحولات الجيوسياسية، مع التزام الطرفين بالحفاظ على استقرار المنطقة، ومواجهة التحديات المشتركة.

وأخيراً يمكن القول إن العلاقات الخليجية - الأميركية تمثل شراكة استراتيجية راسخة تقوم على المصالح المشتركة والأمن الإقليمي. وتأتي رؤية مجلس التعاون لتعزيز الأمن الإقليمي تأكيداً لحرص دول الخليج على جعل التعاون مع الحلفاء ركيزة أساسية؛ لدعم استقرار المنطقة، وتحقيق التنمية المستدامة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد