السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 كان مرحلة فاصلة في كل مقاربات القضية الفلسطينية، وبالتالي لا يمكن اجترار التحليلات والنظريات والمواقف حول أطراف النزاع، على الأقل على مستوى القراءة السياسية وليس المواقف من دون تأمل للمعطيات الجديدة، لا سيما على مستوى، ما وصفته سابقاً بـ«النسيج»، التشكلات الجديدة التي تفرزها التحولات والأحداث الكبرى على المجتمعات الواقعة تحت أتون الحرب والقتل والإبادة والتجويع من دون تمييز كما هي الحال مع الصلف الإسرائيلي الذي أصبح اليوم حديث العالم بدوله وحكوماته ومجتمعاته ومؤسساته، ومن هنا سؤال الما قبل لا يفيد كثيراً في أي قراءة استباقية للظواهر المعقدة التي يفرزها الواقع، والسؤال: ما الذي سيولد ما بعد غزة بسبب ما حدث فيها بغض النظر عن مآلات «حماس» أو الفصائل أو حتى التسويات على المستوى السياسي؟
مؤخراً قارن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بين تجربة التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وبين ما يفعله الكيان الإسرائيلي تجاه أهل غزة، ومما قاله: «أوضحت مراراً وتكراراً لقادة إسرائيل أن حماية المدنيين الفلسطينيين في غزة هي مسؤولية أخلاقية وضرورة استراتيجية»، مضيفاً: «مثل (حماس)، كان تنظيم داعش متجذراً بعمق في المناطق الحضرية. وقد عمل التحالف الدولي ضد (داعش) جاهداً لحماية المدنيين وإنشاء ممرات إنسانية... الدرس المستفاد ليس هو أنه يمكنك الفوز في حرب المدن من خلال حماية المدنيين في هذا النوع من القتال. مركز الثقل هو السكان المدنيون، وإذا دفعتهم إلى أحضان العدو، فإنك تستبدل النصر التكتيكي بواسطة هزيمة استراتيجية».
ومع أن هناك فارقاً كبيراً بين «داعش» بمقاتليه المستوردين والطارئين على مناطق التوتر، وبين «حماس» بغض النظر عن موقفنا منها من زاوية علاقتها بالنسيج المجتمعي في غزة، وإعادة موضعة نفسها بعد السابع من أكتوبر بشكل مختلف وتحالفات جديدة، إلا أن الفارق الجوهري اليوم الذي يطرحه الخبراء والمحللون هو ولادة أجيال جديدة داخل غزة، وخصوصاً في المخيمات، أصبحت منحازة لخيار العنف المسلح بسبب الفشل الإسرائيلي في تجنيب المدنيين ويلات الحرب والتجويع، وهو ما بدا تتعزز كل المؤشرات على صحته في عودة منسوب المقاومة في مناطق، مثل جباليا والزيتون، وكل الأحياء التي ظنّ الجيش الإسرائيلي أنه سيطر عليها، واستطاع تفكيك شبكات «حماس» والفصائل، لكنه يواجه قتالاً شرساً على نمط حرب الشوارع واستهدافات مباشرة لا تنتمي للأنماط المعتادة.
ما تفعله إسرائيل في غزة له عواقب تتجاوز أطراف النزاع إلى المجتمعات ثم الإقليم والعالم بسبب حالة التجنيد والتجييش التي تتراكم وربما تأخذ سنوات في بناء ذاكرة، ألم يتم استعادتها خصوصاً في ظل عدم معالجة ما بعد انتهاء الحرب، وهو ما يمكن قراءته في التاريخ القريب لما يوصف عادة بنكبات العالم الإسلامي من أفغانستان إلى البوسنة والشيشان... الخ، والتي تحولت إلى عواصم متعالية على السياق المحلي للاستثمار من قبل الجماعات المتطرفة والتنظيمات المسلحة، وما يحدث في غزة اليوم في ظل فشل المجتمع الدولي على إيقاف الحرب أعطى الأحداث في غزة مساراً ملحمياً مختلفاً عما سبقه، وبحسب المركز الفلسطيني للسياسات، فإن المفارقة بحسب آخر تقرير أن تأييد «حماس» تضاعف أكثر من ثلاثة أضعاف في الضفة الغربية مقارنة بما كان عليه قبل ثلاثة أشهر، رغم أنه ارتفع بوتيرة أقل داخل غزة.
ولادة أجيال جديدة تؤمن بمقولة العنف والتغيير المسلح داخل غزة وخارجها مرشحة للازدياد، في ظل حالة الانسداد السياسي، حيث لا يمكن القضاء على تنظيم أو تدميره كما هو شعار القضاء على «حماس»، مع بقاء مسببات الفكرة ونسغ وجودها، وهو عدم وجود حل مستدام، مثل حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية في غزة والضفة الغربية، وهذه النتيجة التي تقترب عند قراءة التاريخ إلى الحتمية تنبه لها حتى عدد من المحللين الإسرائيليين، مثلاً كتب جدعون ليفي مقالاً بعنوان: «إسرائيل ترعى الجيل القادم من الكراهية ضد نفسها»، وقال فيه: «علينا حين ننظر إلى الحالة التي زرعت في قلوب كل الإسرائيليين تقريباً بهجوم مروع واحد أن نفكر ما يمكن أن تفعله مذبحة أسوأ وأطول أمداً بالسكان الفلسطينيين». هؤلاء الأطفال لن يسامحوا أحداً!