أليس مهماً التعريج على الآثار السلبيّة المتبادلة بين اللغة والسياسة، بعد الحديث أمس عن «آثار الفوارق التنمويّة في الثقافة»؟ اللغة لا يمكن أن تكون كائناً في حالة انعدام الوزن، فهي فاعلة، متفاعلة، منفعلة، مفعولة ومستفعلة. من المستبعد، إن لم يكن محالاً، أن تكون المؤسسات ومراكز البحث، المعنيّة بشؤون العربية، قد أنجزت دراسات علمية تستند إلى التحقيق العميق، والتوثيق الدقيق، تطرح القضايا المصيريّة التالية: ما هي انعكاسات التشتّت العربي على مستقبل العربية؟ ما هي التأثيرات السلبية لتغوّل اللهجات العامية، في انتشار الفصحى مستقبلاً؟ هل يمكن تطوير اللغة ومناهج تدريسها في دول فاشلة اقتصاداتُها منهارة؟ وتكرّم بالمزيد...
من المفارقات اللاذعات، أن الأمّة العربية عندما كانت أكثر تلاحماً، (اليوم أيضاً في كل شارع ملحمة)، والمسرح الدولي بمنأى عن تفرّد القطب الواحد، ظهرت عبارة «مواجهة التحديات»، وصارت اللازمة في كل التوصيات والقرارات العربية. لكن، حين تزعزعت أوتاد الخريطة العربية، وتداعت أحجار الدومينو، اختفى الحديث عن التحديات ومواجهتها. لا يمكن إعادة عقارب الزمن، بمجرد القول ارجع يا زمان، فكم كان أسهل تطوير العربية ومناهجها قبل انقضاض الفك المفترس على البلدان. في الحرب الباردة كانت العناية تحمي الضعفاء بفضل دفع الناس بعضهم ببعض.
اليوم ومستقبلاً، على الجهات المسؤولة عن حماية منظومة الهويّة، أن تعكف على دراسة مآلات تفاعل السلبيات بين اللغة والسياسة. سلبيات السياسة واضحة، بصرف النظر عن الفاعل، من الداخل أو من الخارج، فالأوضاع في ليبيا، السودان، سوريا، العراق، لا يُمكن أن تكون عامل ازدهار للغة العربية، جرّاء تفشّي الأمّية، تعثر الدراسة، تردّي الحركة الثقافية.
في السنوات القليلة التي أعقبت غزو العراق، ظهر خمسة ملايين من الأمّيين الجدد. أمّا في «المقلب» الآخر، أي الدور السلبي الذي تلعبه اللغة، فيتمثل في استفحال اللهجات العامية بتكاثر استخدامها بدلاً من الفصحى. هذه قضية سياسية بالغة الخطورة، لكونها تسفر عن عربيات متعددة متنافرة على المدى البعيد. سيكون توحيد المناهج مستحيلاً. ثمّة طامات أخرى، منها الدمار الاصطلاحي الذي سيصيب التخصصات العلمية، جرّاء انعدام تعريب العلوم، ما سيترتب عليه تغريب العلوم. ولكون تعريب المصطلحات ليس موحّداً عربيّاً، فإن المشهد سيكون كاريكاتوريّاً حين يلتقي الأطباء في مؤتمر، فسوف تجد العربية نفسها مهمّشةً على الرصيف، فلا يتفاهم القوم إلاّ إذا لجأوا إلى الإنجليزية.
لزوم ما يلزم: النتيجة الاستشرافيّة: ما يتهاون العرب اليوم في حلّه، سيغدو حلّه غداً ضرباً من الخيال.