رغم مضي أكثر من 235 عاماً على بدء الانتخابات الرئاسية الأميركية، فلا يزال الأثر الفاعل فيها يكمن في قوة وتجاذب الحزبين الرئيسيين «الديمقراطي» و«الجمهوري»، وما يقدمه كل منهما على صعيد السياسات الخارجية والاقتصادية، وما يطرحانه من رؤى وتصورات لمعالجة الأزمات، كقضايا البطالة والتضخم والدعم الحكومي وتأثيرات الدعم العسكري لكل من أوكرانيا وإسرائيل ومواجهة التقارب الروسي الصيني الهندي الإيراني.
ويتفق الحزبان الرئيسيان على جملة التحديات التي يجب وضعها على أجنداتهما الانتخابية، ويختلفان على طرق مواجهتها. ورغم ديمومة تلك التحديات خلال العقود الثلاثة الماضية، فإن المتغيرات التي حدثت مؤخراً تفرض واقعاً جديداً على صعيد القيادات الحزبية والقواعد الانتخابية. فالتعاطي مع روسيا أصبح مختلفاً بعد الحرب الأوكرانية، وينطبق الأمر ذاته على إسرائيل بعد حربها في قطاع غزة والضفة الغربية. ورغم التوافق بين الحزبين على تقليص العبء الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، فإن الدور الإيراني في المنطقة فرض على الإدارة الأميركية معطياتٍ جديدةً بخلاف ما هو مخطط له.
وتاريخياً فإن «إدارة السياسة الخارجية طويلة الأمد» من أهم العوامل المؤثرة في دخول وإدارة البيت الأبيض، وهو الأمر الذي أبدت كلتا الإدارتين فشلاً ذريعاً فيه، فروسيا زادت مِن نفوذها وتَعاظَم دورُها عالمياً رغم وضع كلا الحزبين مواجهة الدور الروسي على رأس أجندته. وأميركا التي رفع كلا الحزبين شعارات تعبر عن ضرورة قيادتها للعالم، من قبيل «أميركا أولاً» و«أميركا عائدة»، تقلصت قيادتها للعالم وتراجع نفوذها فيه، كما أن أوروبا لم تعد ذلك الشريك الاستراتيجي في ظل تغير خريطة التقاطع بين السياسات والمصالح الأميركية ونظيرتها الأوروبية، كما أن إيران أصبحت أكثر جرأةً بعد فشل سياسة العقوبات والاحتواء الأميركية بحقها، وأصبحت طهران أكثر تحدياً للسياسة الأميركية في المنطقة، أما برنامجها النووي والصاروخي فلم يكن في يوم أكثر اقتراباً إلى تحقيق غايته مما هو عليه الآن. أما علاقة أميركا بحلفائها التقليديين فربما باتت في أسوأ حالاتها الآن. وعلاوة على ذلك فإن سمعتها تشوهت كثيراً، لا سيما على صعيد دورها في تحقيق الأمن والسلام العالميين وتعزيز احترام حقوق الإنسان في العالم.
وفي ظل استقراء هذا الواقع، فإن المجتمع الأميركي أصبح أكثر تعبيراً عن رغبته في تغيير السياسات العامة، وقد ارتفعت أصوات من داخل الأحزاب وفي أوساط المستقلين حول الحديث عن نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة ومفرزاتها. ويتزايد الأمر حدةً مع ترشيح الحزب الديمقراطي لمرشحه (يتجاوز 83 عاماً)، بينما يدفع الحزب الجمهوري هو الآخر بمرشحه المثقل بمشكلات قانونية (يتجاوز 78 عاماً). ويرى الكثير من الناخبين، لاسيما من فئة الشباب، أن الاستمرار في تكريس سيادة الحزبين على البيت الأبيض هو استمرار للسياسة التي يدفع ثمنَها من مستقبله ومكانة بلده، وأن اختيار أي من المرشحين لرئاسة الولايات المتحدة هو تكريس لشيخوختها وتقليص لدورها المحوري في فهم وإدارة التغيرات الوطنية والدولية، وهو ما يستحثهم للعمل على إحداث التغيير الذي أصبحت الحاجة إليه ضرورية وملحة. ويعتقد هؤلاء أنه إنْ لم يحدث التغيير في الانتخابات الرئاسية القادمة، فإن مستقبلهم ومستقبل مكانة أميركا وصورتها في العالم.. كل ذلك سيكون على المحك، وسيسمح لأعدائها بتحقيق نجاحات يصعب تجاوزها.