: آخر تحديث

وصمة العار الفرنسية!!

28
26
31
مواضيع ذات صلة

في خضم متابعة الأحداث بفرنسا على خلفية قتل نائل مرزوق، لا أعرف حقيقة السبب الذي أرغمني على العودة إلى الوراء، إلى عام 2018 لاستحضار تغريدة سفيرة فرنسا في البحرين آنذاك، سيسيل لونجي التي ذرفت دموع التماسيح مظهرة زائف البكاء وكاذب النحيب راثية حقوق الإنسان، وقد أثارت آنذاك بتغريدتها تلك غضبًا بحرينيًا عارمًا عندما انتقدت حكمًا قضائيًا باتًا بحق أحد المواطنين المتجاوزين، ودست أنفها في شأن بحريني صرف متجاهلة قواعد اللياقة الدبلوماسية. ولعل السبب في استحضاري تلك التغريدة، والموقف الفرنسي الرسمي برمته إزاء منظومة حقوق الإنسان في مملكة البحرين قناعتي الشخصية بأن الساسة الأوروبيين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون.

 ثمة سؤال مؤرق مفاده كيف لبلد تعد نفسها حصنًا للديمقراطية وحقوق الإنسان أن ترتكب فيه مثل هذه الانتهاكات الحقوقية ويتفشى فيه التمييز ليس على مستوى الشارع فحسب وإنما على مستوى مؤسسات الدولة، وخاصة منها المؤسسة الأمنية التي تعد صمام الأمن والأمان في دولة القانون والمؤسسات، فإذا كانت عقدة التفوق العرقي مستبدة بمسؤولي الدولة ورجال أمنها فكيف لنا أن نتحدث عن أمان ومساواة وعدالة وحقوق؟!. ولعل البيان الذي أصدرته نقابتا العاملين في الشرطة والذي وصف المحتجين بـ«الأقليات العدوانية وبالجحافل المتوحشة» يشير إلى حجم كراهية المهاجرين! فهل من المنطق أن يصف بيان النقابتين جزءًا من الشعب الفرنسي بمثل هذا الوصف المشين؟!

 السنوات الخمس الأخيرة فقدت فيها فرنسا كثيرًا من سمعتها الحقوقية فكلما حل طارئ أمني جديد تتخذ الحكومة الفرنسية من أجل درئه إجراءات لا تتسق مع معايير حقوق الإنسان خاصة منها الحق في حرية التعبير، فمع كل طارئ تنزع القنوات الإعلامية الفرنسية قناع النزاهة والموضوعية لتتكلم بصوت الحكومة وتحديدًا بصوت إيديولوجيا العرق الأسمى التي يُحرص على إخفائها سائر الأيام لتظهر عند الأزمات وخاصة منها تلك التي يكون المهاجرون أو الفرنسيون من أصول عربية أو إفريقية طرفا فيها. وفضلا عن ذلك للقاصي قبل الداني أن يلاحظ كيفية تعامل الوحدات الأمنية الفرنسية مع مختلف الاحتجاجات، فالإفراط في استعمال القوة سمة ملازمة للأمن الفرنسي في تعامله مع مختلف الحركات الاحتجاجية وهي سمة يتصاعد منسوبها إذا تعلق الأمر بطارئ أمني فيه بشر من أعراق غير أوروبية، فسيطرة السلطات الأمنية على الأوضاع بالقوة المفرطة عادة ما يتزامن مع أرواح تزهق ودماء تراق وخسائر مادية كبيرة تطال ممتلكات العباد والدولة لتنال من هيبتها ومن.. سمعتها.

 حدث ذلك إبان احتجاجات السترات الصفراء في عام 2018 ومع المحتجين ضد مشروع إصلاح نظام التقاعد الذي مررته الحكومة من دون تصويت برلمان في عام 2023 وكذلك مع الاحتجاجات الأخيرة التي اندلعت في أعقاب مقتل نائل مرزوق، الفرنسي ذي الأصول الجزائرية المغربية، على أيدي شرطة المرور في نهاية شهر يوليو من هذا العام! تصوروا فحسب أن يقتل هذا الشاب ببرودة دم غريبة بطلقة نار مباشرة في رأس المخالف على يد شرطة المرور بسبب مخالفة مرورية! كيف يحدث أن من يعمل على سلامة مستخدمي الطرق والسلامة المرورية العامة يتحول إلى قاتل يردي المخالفين!

 ربما السؤال الأول الذي لا بد من طرحه برغبة معرفة سبب الموت المجاني الذي تمارسه سلطات الأمن الفرنسية خلال مواجهتها للاحتجاجات الكثيرة هو: هل يوجد في العالم رجال شرطة مرور مدججون بالسلاح؟ ولدى بحثي عن إجابة لهذا السؤال وجدت أن من بين القوانين الفرنسية قانون يتيح لرجال المرور حمل سلاح خفيف أحيانا لمواجهة المخالفين لقوانين المرور في بعض المناطق النائية، ويسمح لهم في حال الخطر الداهم استعمال ذلك السلاح بتدرج من طلقات التحذير إلى طلقات صد للمعتدين تستهدف شل حركاتهم وليس قتلهم. غير أن ما جرى في حالة نائل مرزوق أنه لا وجود لأدنى مبرر مقنع يبيح استخدام عنف قاتل ضده. فمخالفته عادية يمكن معالجتها بتحرير مخالفة أو حتى باعتقاله لو أنه أظهر مقاومة لرجال المرور، ولكن يبدو أن حالة من الكراهية قد تفاقمت وأصبحت تعم المجتمع الفرنسي، وفي ظني أن هذه الحالة هي التي كبست زر المسدس وأردت نائل مقتولاً.

 في رأيي المتواضع أن فرنسا، كما بلدان أوروبية أخرى، تحتاج إلى مراجعة جذرية لإيجاد صيغة تعايش جديدة تحفظ المجتمع الفرنسي من الهزات الكبيرة. ما يشهده المجتمع الفرنسي هو مخالفة صارخة لحقوق الإنسان المكفولة دستوريًا. وينبغي على السلطات الفرنسية تهيئة المهاجرين للعيش في المجمع الفرنسي، كما أن عليها أن تزيد من جرعات تقبل المجتمع الفرنسي للمهاجرين الذين يستقر بهم المقام في فرنسا ليصبحوا مواطنين لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات التي على المواطن الفرنسي الأصلي، لا أن يكتفى بقبولهم مواطنين يقومون بالأعمال التي يأنف الفرنسي الأصلي القيام بها.

 مستوى العنف الممارس من المحتجين والسلطات مرتفع جدًا، وهذا لا يؤسس لمجتمع متسامح يتعايش فيه مواطنون من مختلف الثقافات والخلفيات العرقية والإثنية. وإذا ما تأكد، نتيجةَ تحقيق مستقل، أن قتل نائل مرزوق جاء بسبب عرقه، فإن ذلك سيبقى وصمة عار فرنسية إلى أن ينقلب المجتمع على نفسه ويشيع بين أفراده ثقافة التعايش والتسامح تأكيدا لشعار الجمهورية الفرنسية: حرية، مساواة، أخوة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد